اخبار عمان

جماليات الصورة الشعرية في “قصيدة قطب العلوم” للقاضي عيسى الطائي

 

 

مراحل متعددة لتطور الصورة الوصفية.. و3 ضروب تُعلي من القيمة الإبداعية

القصيدة تعكس الخلفية التراثية للشاعر الضاربة بجذورها في أعماق ديوان العرب

شاعرنا اعتصر 75 بيتًا من صفحة وجدانه مملوءة بأقداح بحر الكامل

“الخريدة الطائية” درّة التاج في ديوان الشعر العُماني المعاصر

النزعة الإنسانية تتبدى بجلاء في قصائد الشيخ القاضي عيسى الطائي

 

 

ناصر أبوعون

عبر خمسة وسبعين بيتًا تنزُّ البلاغة العالية من أعطافها، وتنبعث الصور الشعرية الطريفة من أكمامها، وتتناسل الأفكار السامية من تيجانها، فتزيح غلالة الغموض الشفيف التي تُبرقع وجهها، فيُسفر عن مفاتن حُسْنها اللغويّ، وتفضُّ (مناديس) كنوزها المحتشدة بأساليب بلاغية مبتدعة غير مصطنعة، وتُطلق جِياد المجازات الخفية، وتفكُّ إسار الاستعارات والكناءات والتشبيهات من عقالها، وترسم الصور البسيطة والمركّبة والممتدة، فيقع القاريء في أسر ملاحتها من البيت الأول: “هلْ نَسْمَةٌ بالغَرْبِ طَيِّبَةَ الشَّذَا // تُحْيي فُؤادًا ذَابَ مِنْ حَدِّ الجَوى”، “للهِ صَبٌّ فِي عُمانَ مُتَيَّمٌ // أَضْحَى أَسِيرَ هَوىً بِأَجْفَانِ المَهَا”، “رَتْقٌ، إذا ذُكِرَ الغَضَا وقَطِيْنُهُ // أَوْرَى الغَرَامَ لَهِيبُه وَسْطَ الحَشَا”.

مراحل تطور الصورة الوصفية

مع خريدة الشاعر عيسى بن صالح الطائي ندخل طقس الشعر منطلقين من جمالية المشهد السرديّ الذي اتسعت مساحته على مدى ثلاثين بيتًا، ونصعد في حضرة الشاعر درجات بُرج البلاغة حتى نصل إلى سدرة القصيدة، وننتقل معه في ثلاث انتقالات تطورية داخل معمار بنية الصورة الشعرية، التي ترتكز على (الوصف)، وجاءت على ثلاثة ضروب:



 

(أ) المساواة بين طرفي الصورة

تأمل معي قول الشاعر: [(لله ظبي إن تبسّم ثغره // خلنا به برقًا حدا عيس الحيا)]. وهنا نرى الشاعر كيف نجح في بناء معمار الصورة الفنية على ركنين ماديين (الثغر الباسم) للظبي المعادل الموضوعي للمحبوبة المتخيلة، و(البرق اللامع)، واتضحت براعته في إقامة المساوة بين الصورتين على (التشبيه الحسيّ)، وأزاح الستار عن مشهدين في وقت واحد بينهما (علاقة مشابهة) في الصورة والتأثير.

(ب) مقابلة حالة نفسية وصورة مادية

وهذا النوع من الوصف عثرنا عليه في مواضع عديدة داخل بنية القصيدة، وفيه يبني الشاعر معمار صورته الشعرية على ركنين ومشهدين متقابلين: (حالة نفسية) في طرف، وفي الطرف المقابل (صورة مادية)، ومنه قوله: [(والله لا أصغو لقول عواذلي // أبدًا ولو ذاب الفؤاد من القِلا)] في الصورة الشعرية الأولى يصمّ الشاعر أذنيه عن الاستماع للعواذل والوشاة، (ولو ذاب الفؤاد) من كراهية الشاعر للمحبوبة)، وهو فرض يستحيل وقوعه لذا استبق الصورة بـ(لو) التي تفيد امتناع الجواب لامتناع الشرط. وفي موضع آخر نعثر على صورة مادية أكثر براعة في إنشائها وجمالا في معمار بنيتها، وكثافة معانيها حيث صوّر (زند مكارم) الممدوح بحجر يُقدَح فتشتعل شرارتُه نارا لا تخبو ولا تنطفيء شعلتها، وهي حالة معنوية نفسية تقابلها صورتان ماديتان (نار القِرى) و(نار الوغى)، كما في قوله: [(قدّاحُ زَنْدِ المكرُمات فنارُه // إمّا قِرَى للضيف أو نارَ الوغَى)].

(ج) استبطان الذات والماورئيات

إنّ هذا النوع من الصور الوصفية يُعد من أرقى أنواع الصور الوصفية، حيث يتحوّل الشاعر عن المحسوسات، إلى ذاته فيستبطن أفكاره الداخلية، ويغوص فيما وراء الأشياء الحسيّة ويتخطاها إلى عوالم باطنية، ويطرح أسئلةَ الكينونة، ويبحث فيما وراء ماهية الوجود، ويحاول أنْ يسبر أغوار نفسه، ويستكنه ضميره، ويستنطق شعوره، ويناجي روحه. ومنه قول الشاعر:[(لي في حِما الوعسَاءِ حِبٌّ نازِحٌ // حيّا حِما الوعساءِ مُنْهَمِلَ الحَيا)، (اللهَ يَا حَاديَ المَطايا مُوهِنًا // في هَودجٍ كَمِنَتْ بِهِ شمسُ الضُّحَى)، (فَلَئِنْ نَأَوا عن مُقلتِي فبِمُهجَتي // ضربُوا الخِيامَ وطنَّبُوها بالظُّبَا)، (فالقلبُ أضحَى عَامرًا بِودَادِهم // أبَدًا ورَبْعُ الصَّبرِ مِنَّي قضدْ عَفَا)].

الصورة الوصفية في الخريدة الطائية

وفي هذه الخريدة تتبدّى ثيمة الوصف على ضربين؛ (ماديّ حسيّ) و(خياليّ معنويّ). فأمّا صورة (الوصف الماديّ الحسيّ)، ولا يُجيدها سوى أصحاب الفِطر السويّة، واللغة الثريّة، والخلفية التراثية الضاربة بجذورها في أعماق ديوان العرب، وهي من الصور التي كابد الشاعر في بنائها، كونها أعظم بلاغة في ثرائها، وأشد تأثيرًا في إيحائها، وفي بناء معمارها الفني اعتمد الشاعر على نقل صورة مجتزأة من الواقع المُعاش دون الجنوح إلى التجريد أو التخييل وتجلّت براعته أكثر في صياغة طرفيها بحنكة المتمرّس، فأتت مطابقة للواقع بلا رتوش أو إضافات من عندياته.

أمّا النوع الثاني من الصور الوصفية، وهي بالقياس الإحصائي أكثر عددا، وهذا النوع يسير مطروق ومَرْكبٌ سهل لكل من ملك ناصية القلم، وقد اعتمد فيه شاعرنا على بناء صور معنوية خيالية، يتوسّل فيها بالتشبيهات والاستعارات والمجازات واستحضر الموصوف من صندوق ذاكرته، وشرع في وصفه دونما عناء في الشرح أو التأويل.

خصائص الصورة الوصفية

أمكننا في الخريدة الشعرية رصد عدة خصائص تنماز بها الصورة الوصفية؛ ولكن يبدو أن الشاعر ارتأى أن يلقي بثقله الإبداعيّ كله في بناء هذه الصور على ركنين شديدين من سمات هذه الصورة الوصفية، ويمثلان الإطار العام في معمار كل صورة جزئية؛ فاتكأ على (اللغة التصويرية)، التي تتوسل بالسرد، و(الموتيفات الصوتية) التي تشكل مجاميع غنائية من الكورس على مسرح القصيدة لتصدح تحت ظلال تفعيلات البحر الكامل الصافية والتي تناسب موضوع القصيدة.

(1) اللغة التصويرية

 برع شاعرنا الشيخ عيسى الطائي في رسم صورة شعرية للعلامة الفقيه محمّد بن يوسف أطفيش قطب الأئمة، فجاءت ثرية الدلالة، متفجرة بالإيحاءات، مسبوكة المعاني، تتعاون فيها الصور الجزئية داخل سلك من الوحدة العضوية فكوّنتْ صورةً كلية أشبه باللوحة التشكيلية. ومن هذه الصور نقرأ له: [(يشدو على دوح الطُّروس يَرَاعُه // فصَرِيفُه صوتُ الهَزَارِ إذَا شَدَا)، (زَاكي الخِلالِ حَميدُها ذُو هِمّةٍ // قَعْساءَ تَزْرِي بالثُّريّا والسُّهَا)، (مُتَلَفِّعًا بشالحِلْمِ مُؤتزِرًا بهِ // بُرْدَ المَكارمِ والسَّماحِ قد ارتَدى)].

(2) بحر الكامل والموتيفات الصوتية

خمسةٌ وسبعون بيتًا قَدَّها شاعرنا الشيخ القاضي عيسى الطائي من قميص الشعر، وقطفها من شجرة روحه اليانعة، واعتصر ثمارها من صفحة وجدانه النَّاصعة، وملأ بها أقداح بحر الكامل الصافية. ولكن لماذا تخيّر بحر الكامل بريدًا لرسالته، وأمينا على خريدته؟ لأن الكامل بحرٌ خليليٌ ناصيته صادقة، وفنٌ شعريٌ معانيه وافرة، ونهرٌ لغويٌ ألفاظه حاضرة، وهو خزانة الشعراء الأجلاء، وصندوق تراتيل الفقهاء الأنقياء، وفي هذه الخريدة البهيّة جاءت تفعيلاته على ميزان: (متْفاعلن متْفاعلن متْفاعلن // متْفاعلن متْفاعلن متْفاعلن) سواكنه وحركاته مركبٌ مِطواعة، وضروبه موئل للعواطف الفيّاضة، ولعلّ شاعرنا تخيّره؛ لجمال إيقاعه، وسلاسة أوزانه، وفخامة أغراضه، فجاءت معانيه جليّة وصوره نقيّة، وقوافيه شجيّة، وجاءت الموتيفات الصوتية والبنى التركيبية والنبرات الإيقاعية في صورة نوتة موسيقية تصدح أصواتها بالدلالات مثل كورس يوزّع الانفعالات المتباينة على شبكة أحباله الصوتية، التي تضجّ بالانفعالات المتناغمة. ومن مأثور قوله في هذا المعنى: [(شهمٌ محَا داجي الخُطوبِ برأيه // وأبادَ شملَ المشكلاتِ إذا عدا)، (روحُ الزَّمان وبدرُه وربيعُه // كفُّ السماحِ وساعداه بِلا مِرَا)، (في وجههِ سِيَما الهُدى، وبغمدِه // كَمَنَ الرَّدى، وبِكفِّه بحرٌ طَمَا)، (فرعٌ زَكا من دوحةِ المجدِ التي // ما أنبتتْ إلا بأثمارِ العُلا)، (غيثٌ إذا ما الجودُ صَوّحَ نبتُه // يهمي بنوَّار النُّضَار على الورَى)].

الخصائص الفكرية للمدحة الطائية

هذه القصيدة درّة التَّاج في ديوان الشعر العُمانيّ المعاصر، وواسطة العقدِ في جِيد القصائد الطائيّة، والياقوتة البهيّة في مُدونة المديح الخليجية، والمعلّقة السَّنيّة في وصف قُطب العلوم الشرعيّة؛ سلطان الفقهاء، ومصباح الأولياء، وطريق النجباء إلى هداية المتقين، ودليل الرُّشداء إلى أنوار اليقين محمّد بن يوسف أطفيش قطب الأئمة الجزائريّ موطنًا ونسبًا، والإباضي مذهبًا ونُسُكا. فإذا مت أوغل القاريء في بحر معانيها، وسعى لاستبطان ما وراءها، وسبر أغوارها العديد من الخصائص الفكرية ولكننا وقفنا على ثلاثة منها فقط هي الأبرز:

( أ ) نزعة إنسانية برؤية إسلامية  

إنّ (النزعة الإنسانية) في هذه الخريدة كما أسماه شاعرنا لا شرقيّة ولا غربية، بل هي إسلامية المنشأ، وقرآنية الوحي، وعربية الموطن، وإباضية المذهب، وإن تراجع تأثير سطوتها مع إقفال باب الاجتهاد في نهايات القرن الرابع الهجريَ، ثم سَطا عليها الغربُ، وصدّرها لنا فلاسفته الماديين على ألسنة أبنائه المُتعلمنين من بني جلدتنا.

ومن يتتبعُ المنتوج الشعري للشيخ القاضي عيسى الطائي ستتبدَّى له هذه النزعة الإنسانية في جُلّ قصائده، وإنْ كان يتوهج ضوؤها أكثر في خريدته (قطب العلوم)، من مطلعها حتى منتهاها حيث يُقدم شاعرنا (القيم الإنسانية النبيلة ذات الخلفية الإسلامية) على كل شيء. والمقدمة الغزلية الطويلة في هذه القصيدة تضجّ بروائع الصور الشعرية المعبرة عن هذه النزعة ومن جميل صوره قوله: [(تبّت يَدَا مَنْ لامني في شَادِنٍ // لمَّا يَذُقْ طَعْمَ الهَوانِ مِنَ الهَوَى)، (فَإذا رَنَا فَضَحَ الغَزالَ تَلَفُّتًا // وإذَا بَدَا فَضَحَ الغَزَالةَ فِي السَّنَا)، (خَفْرَ الدَّلالِ لَهُ قوامٌ أَهْيفٌ // رَشَأٌ كحيلُ الطَّرفِ مَعْسُولُ اللّمَى)، (يا أيُّها الظَّبيُ الذي في طَرْفِهِ // حَوَرٌ يَصُولُ بِهِ علَى أُسْدِ الشَّرَى)].

(ب) نزعة فرديّة برؤية جمعويّة

ولأنّ الشاعر عيسى الطائي يأتي من خلفية إسلامية، تُوازن بين حاجات الفرد ذي الكيان المستقل المُعتد بقدراته، وغايات الجمعنة التي يتماهى فيها الفرد مع الأمة التي نشأ فيها في إطار “نزعة إنسانية معتدلة” تبزغ في قصيدته (قُطب العلوم) نزعة فردانية تؤدي دورها بما لايتعارض مع القيم الجمعويّة للأمة الإسلاميّة. ومن مأثور قوله في هذا الاتجاه: [إنسانُ عينِ المجدِ بيتُ قصيدهِ // ربُّ المعارفِ والعوارفِ والحِجَى)، (وَرِعٌ تقيٌّ ماجدٌ من مَعْشَرٍ // قد أحرزُوا قَصَبَ المَفَاخرِ في الصِّبا)، (قومٌ إذا نَضَبَ النَّوالُ بأرضِهم // أجرَوا ينابيعَ المَكارمِ والنَّدَى)، (قومٌ يَمُجُّ السَّمعُ غيرَ حديثِهم // وإذا هُمُ ذُكِرُوا تشنَّف بالمَها)، (لهُمُ الجَحافِلُ والصوارِمُ لُمَّعٌ // والصَّافِنَاتُ شَوازِبًا مَكَّ المَلَا)، (قومٌ إذَا دُعِيَتْ نَزَالِ رأيتَ في // أَسيافِهم صُورَ المَنايا والرَّدَى)].

(ج) نزعة دينية بعقيدة إباضية

لقد كان الشيخ عيسى الطائي ابن بيئته، وشجرة علم نبتت في أسرة علمية اشتغلت بالفقه والقرآن، ونسخِ متونِ كتب الأصول، وجلس في مطلع صباه إلى أساطين العلماء فتلقى عنهم وتولى القضاء لسلاطين (عُمان)، ومما يُحكى عنه أنّه كان (عزوفًا عن الدنيا فأظمأ نهاره وأسهر ليله، فنوَّر الله قلبه) فجاءت قصائده ضاجة بأنوار العقيدة، ووارفة الظلال بالأحكام الفقهية، وحاملة لأنوار القرآن أحكامًا ومعانٍ وألفاظا وبلاغة. وفي هذا المعنى نقرأ له: [(كهفُ الأراملِ حِصنُها وثُمَالُها // سيفٌ على أَعداءِ أحمدَ مَا نَبَا)، (فَلَهُ التَّصانيفُ التي سَجَدَتْ لها // كُتبُ الغَزاليُّ الذي بَهَرَ الوَرَى)، (أمحمدٌ أظهرتَ دينَ الحَقِّ في // هِمْيَانِكَ الزَّاهِي علَى رَوضِ الرُّبَى)، (وغَدوتَ مُجتهدًا تُشَيِّدُ صَرحَه // وسَلَكتَ مِنْهَاجَ النَّبيّ المُصْطَفَى)، (فَنَشَرتَ عندئذٍ لواءَ الدينِ في // هذِي البسيطةِ بعدَمَا كانَ انْطوى)].

المقدمة الغزلية في الحضرة البهية

ثلاثون بيتًا من الغزل، وثمّة تمهيد من فلسفة أدب الاحتشام، وتشبيب بأميرة الحِسانِ من المعاني، التي صنعها على عينه، وقَدَّ طينتَها من خلجات روحه، واستنبتها في تربة خياله الشعريّ، فتخلّقت بشرًا من روح وجسد، وتضاءلت في حضرتها نفسُه الأمّارة بالحبِّ وأقامها تمثالا من الجمال على باب القصيدة قربانًا للمدوح تُطري القاريء، وتسافر به في الأقاصي إلى تخوم الروح، وتعبر به سياج التوجّس في الهجير، ليحطّ عصاه تحت شجرة النسيب دون أن يتقصّد الشاعرعيسى بن صالح الطائيّ وهو في العقد الثاني من عمره أن يشعل جذوة النسيب، ويقترف جريرة العشق المحرّم؛ بل بريد وصال بقطب الأئمة تلهج بها نفسه وهو معلّق بأستار كعبة العلم مناجيًا [(مولاي إنّي لمْ أُوَشِّى بالثَّنَا // بُرْدَ القريضِ لنيلِ مَالٍ أو غِنَى)، (لكنَّ حُبَّكَ فِي الفُؤادِ دُعَابَةٌ // والمَرْءُ مَوقُوفٌ على سُبُلِ الهَوى)، (فاسألْ لِيَ المَولَى الكَرِيمَ بِفَضْلِهِ // عِلْمًا يُبَلّغُني الطَّريقَ المُرْتَضَى)، (واسألْهُ لِي حَظًّا عَظِيمًا رَافِعًا // ووِقَايةً وهِدَايةً طُولَ المَدَى)].

بل تقصّدَ شاعرنا أن يمهّد لمدحيته بمدخل دراميّ فاسْتَرَقَّ الأنظار من اعتياديتها، وأسر الأرواح من ملاهيها، وجَرَّها إلى مسرح القصيدة عِنوةً بعد أن كسا قصيدتَه ثوبا قشيبًا فيه من الجِدّة والطرافة والملاحةِ ما ترنو إليه أفئدة السامعين، وخلع عن وجه (خريدته) أردية الغزل التقليديّ، ونزع عن جسدها الأوصاف الحسيّة، وبثّ في أوصالها أشواق الحنين والتشوَّفَ إلى مراتع الصِّبا، وألقى على كتفيها عباءة الشيخ الصوفيّ، وألبسها وشاح العَفَاف؛ وأخرجها من أسمال الأنماط المتوارثة في باب الغزل العربيّ التقليديّ، وأدخلها في طقسٍ شعريّ جديد، وخلع عليها من سمات ورعه وتقواه، وتناصَّ مع المعجم القرآنيّ في صورة بديعة يقول فيها: [(قسمًا بسينِ سَوادِ سُكَّةِ خَالِهِ // وبِصَادِ صَارِمِ ناظريْهِ المُنْتَضَى)، (وبِسِحْرِ مُقلتيهِ وآسِ عِذَارِه ِ// وبِغُصْنِ قامتِهِ الرَّطيبِ إذا مَشَى)، (وبِكَافِ كافُورٍ لَهُ بِجَبينِهِ // ما ضَلَّ قلبي في هَواهُ ومَا غَوَى)].

اتّساق الوحدة العضوية

تشبه أبيات هذه القصيدة حركات الأمواج المتدافعة في متوالية عددية تتابع في رحلتها إلى الشاطيء ملضومة أبياتها في سلك واحد من (وحدة موضوعية)، تولّدت من رحمها (وحدة عضوية) متماسكة المعنى والمبنى؛ تدور في فلك النصّ، فجاءت الأفكار متماسكة في معناها، والجمل الشعرية متضافرةً في مبناها، والصور والمجازات شارحة لمبتغاها، وإن بدا استحواذ المقدمة الغزلية على المساحة الأوسع من قماشة القصيدة، إلا أنّ هذه الوقفة الغزلية الطُّولى جاءت تمهيدًا لمدحيته في قطب الأئمة فقد لمسنا كيف ابتدأ مطلعها بذكره لفظة (الغرب) في إشارة رمزية دالة على القُطر الجزائريّ وطن الممدوح العلامة الإباضي المجدد محمّد بن يوسف أطفيش. غير أنّ هذه الوحدة تحققت بمجموعة من الأدوات والأساليب الإنشائية والتركيبية، فقد ارتكز على النداء كوحدة جامعة للمعاني وجامعة للمنادى في صور متعددة تصبُّ في نهر فكرة واحدة وفاصلة رابطة كما في قوله: (يا حادي المطايا موهنا)، (أمحمد أظهرت دين الحق)، (يا عاذلي دعني أموت بحبه)، (يا أيها الظبي الذي في طرفه)، وجاء الأمر كواسطة العقد الرابطة بين محاور القصيدة وإشارة إلى الدور الثقافي والتنويري والفقهي للممدوح في قوله: (فالزمْ قراءتها وكّرْ درسها // لترى من النُّكت المفيدة ما خفا)، (واسأله لي حظا عظيما رائعا) (فاسلمْ على كرِّ الزمان وصرفه) هذا فضلا عن أساليب العطف وهي كثيرة تضيق عن الحصر هنا، وأساليب الشرط بما ينطوي عليه من التفاتة جمالية ودلالة إيحائية رابطة بين اللفظ والمعنى في إطار الصورة الكليّة، كما في قوله: (فإذا رنا فضح الغزال تلفّتا // وإذا بدا فضح الغزالة في السنا) التي اتكأ عليها الشاعر كأساليب فنيّة ساعدته في الإمساك بأزمّة قصيدته مجموعة في سلك واحد لا تنفرط حبّاته، ولا تنفصم عراه، وصوّر من خلالها (القطب الفقيه محمّد بن يوسف أطفيش) بشمس العلوم، والأفكار الدائرة حول شخصيته بمثابة الكواكب التي تدور في فلكه، وتستمد طاقتها النورانية ووحدتها الجامعة منه.

فلك الأفكار ومدار الأسرار

وفي الأخير فإن شاعرنا الشيخ القاضي عيسى الطائي بنتى (خريدته المُستتمّة في مدح قطب الأئمة) على سِتة عُمُد ضربت بجذورها في تربة الشعر العربيّ تستقي منها أكسير الحياة، وتستمدد من مُصاصة عروقها عُصارة الخلود لتظل مشعشعةً وضاءةَ في جبين ديوان الشعر العُمانيّ، راسخةَ المعاني في عقول الأجيال التي تترى على مرّ الزمان، وشمسها عصيّة على الأفول والنسيان، وستبقى أبياتها شواهد في علم البلاغة، وصورها أوابد في علم البيان، لاتصدّها عقولُ البلغاء، ولا تملّها آذانُ الأدباء؛ فقد ابتدأها بـ”مقدمة غزلية” في تسعة وعشرين بيتًا، ثُم انتقل بعدها إلى وصف شخصية قطب الأئمة محمّد بن يوسف أطفيش في ثلاثة وعشرين بيتًا، ثمّ عرّج على مديح “عشيرة قطب الأئمة”، وأشاد بأصالتهم ونقاء نسبهم في تسعة أبيات، ثُمّ ذهب إلى “بيان الدور العلميّ لقطب الأئمة”، وأشار إلى فضل علومه الدينية وأنواره الفقهية في أربعة أبيات، وقبل أن ينتهي من خريدته نسج خمسة أبيات في التوسل بـ”قطب الأئمة” وطلب الدعاء له عند الله بعلو الهِمّة، وأن يهبه العلم من لدنه، وفي المختتم وصف “خريدته الشعرية” بأنها هدية منه لشيخه ويأمل أن تنال القبول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *