اخبار عمان

قراءة في “الأحقافي الأخير” (1 3)

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

تضع رواية “الأحقافي الأخير” القارئ في فضاء مكاني مفتوح، في زمن منحدر لا يشبه ما قبله ولا يشبهه ما بعده، طغى فيه ليله على نهاره وتصارعت فيه الأيدلوجيات، وتناحر فيه الطمع والفقر في ساحة الربح والخسارة، استطاع الكاتب نسج شخوصه النابشة في فلسفة الوجود عبر حبكة نقاشية متماسكة تمتد إلى نهاية الرواية، رسم خلال سرده العديد من الإسقاطات الجغرافية التي أسقطها على أمكنة الرواية مع إبراز البعد السياسي والعسكري والاجتماعي والثقافي لها وفق أيدلوجيات متباينة، بتقنية لافتة من الذكاء اللغوي والفكري.

وللأسماء في الرواية قدرة عجيبة على استفزاز فضول القارئ؛ فلكل منها دلالتها وصلتها بأحداث الرواية، لعل أبرز الأسماء التي استفزت فضولي واستوقفتني” الآنفي، أوفير”، كما برزت من خلال الرواية بعض عادات وقيم الأحقافيين وبعض المصطلحات، وحالة عجيبة من التوحّد المتوازن بين الأرض والأحقافيين، ولجوئهم النفسي إلى الطبيعة رغم بشاعة الحرب، للمرأة الأحقافية دورها ومكانتها كما برز البعد الثقافي والنفسي والبطولي في شخصية البطل علي بن سعيد وشخصية سالم بن سلم، والبعد النفسي والثقافي لشخصية نشوان الحمرمي وقربها من القارئ؛ بالرغم من كونها شخصية قاتل، جميعها بثّتها الرواية في سياق أدبي فطين، ومهما بلغ العمل الأدبي من الجمال؛ إلاّ أنه يبقى لدى القارئ بعض التساؤلات أو مالا يتوافق مع ذائقته الأدبية، سأحاول التطرّق لبعض هذه الجوانب في قراءتي للرواية بعيدا عن مآخذ الناقد المتخصص.

قبل قراءة الرواية تفحصت بنظري صورة الغلاف الغريبة، وبعد قراءة الرواية أيقنت أنّ دار النشر وفقّت في اختيار واجهة الرواية.

“ليت الكهف نطق وأزاح عنّي هذا الثقل الجاثم عليّ، ليت العين قالت: أيها الناس هذا القاتل، وأشارت إليّ ورددّ المكان الصدى: قاتلللل.. قاتلللل، تمنيتُ لو أنّ الأطفال وأمهم نفضوا التراب عن أجسادهم وأشاروا بأصابع ينثال عنها التراب، وقالوا: أنت قاتلنا، وأخذوا حقهم بأيديهم منّي في تلك اللحظة، ليس منّي فقط؛ بل ممّن وشى بهم، وأبلغ عنهم غرفة العمليات التي لم يشاهد أفرادها ما شاهدته هناك” ربما هذه الفقرة القصيرة في الصفحة 87 من الفصل الثالث الأقصر مسافة إلى قلوب القراء؛ حيث تضع القارئ في بحر الدم الآثم، وتعمّم بالقياس المصاب الذي حلّ بديار الأحقاف، أو هكذا شعرتُ بعد قراءة الرواية.

تحمل العبارة كمًّا هائلًا من الدمار النفسي الذي أصيب به ضحايا موطن الأحقاف، عين منكوبة ومكونات المكان تكاد تتحد مع العين المنكوبة وتفصح بمجريات الأحداث؛ فلو تحدّث الكهف لأنصف الضحايا وتحدّث عن الكثير من العيون المنكوبة والأفئدة المغبونة، هكذا استطاع الكاتب إيصال عاطفة الألم عبر حروف أسقطت الدماء نقاطها وكبّدت القارئ عناء الغوص في أعماقها؛ فقد نجح الكاتب في تجسيد المكان في روايته بمكوناته وقيم أهله؛ فكأنَّ الكهف فم لشاهد أعيان أبكمه الألم، أو عين أخرى للفتاة المنكوبة ظلّت تلاحق القاتل؛ رغم ابتعاده عن المكان ومضيّ عقود متتالية على الحدث.

يشعر القارئ للوهلة الأولى من قراءة عنوان رواية “الأحقافي الأخير” الصادرة عن دار سؤال عام 2020 للكاتب محمد الشحري، أنه أمام المكان وابن المكان الذي وصفه الكاتب بالأخير؛ فكلا الكلمتان معرفتان بـ”ال” التعريف، مما يشير للمعرفة بقوة النسب بين المنسوب (الأحقافي) والمنسوب إليه (الأحقاف) وبين الصفة التي خصّ بها الكاتب هذا الأحقافي؛ فهو (الأخير) ومن المعروف أنّ الأخير نفيض الأول بمعنى أنه آخر واحد، يشعر المتمعّن في العنوان أنّ صفة (الأخير) أكسبت المنسوب دلالة الإفراد ونسبه للمكان يكسبه دلالة البطولة والنضال.

بدأ الكاتب سرد أحداث روايته على لسان الراوي العليم؛ حيث ركزت الرواية على البطل علي بن سعيد الأحقافي، الذي قدمته الرواية للقارئ كنموذج لمعنى البطولة؛ فاقترن ذكره من خلال سير الأحداث بالسمو والفداء، له خصاله الفريدة وفكره المختلف وسلوكه المنزّه، فدوره يتسم بسمات بطولية جعلته يتصدر المشهد الثوري بما يتميز به من اختلاف.

اعتمدت الرواية في سير الأحداث على الراوي العليم، فقد بقيت الشخصيات لا تظهر بشكل مباشر للقارئ خاصة شخصية البطل علي بن سعيد الأحقافي، وكذلك شخصية البطل الأسطوري سالم بن سلم، ربما اتسامها بالصفات الفدائية والشجاعة هو ما أبقى شخصياتهما على لسان الراوي العليم، بعكس الشخصية نشوان الحمرمي التي برزت من خلال الراوي المشارك واقتربت كثيرًا من القارئ؛ بالرغم ممّا تحمله في ذاتها من العتمة والغموض، كونها شخصية القاتل، الذي يحمل ثقل ذنبه والعديد من الأضداد الساكنة ذاته؛ ممّا جعلها شخصية بوجهين، الأول مضيء والآخر مظلم، شخصية تفتقد للتوازن النفسي والحياة الطبيعية التي يعيشها الناس؛ فبالرغم من بروز جوانب مميزة في شخصيته إلاّ أنها لا تمحو عنها صفة القاتل.

تولّت شخصية نشوان الحمرمي سرد الكثير من أحداث الرواية، والتأثير المباشر بها على القارئ وكشفت كثيرًا من جوانب شخصيته المختلفة؛ فبالرغم من أنه موكل بقصف مساكن الأبرياء وعاش مدة عامين ونيف مع الأحقافي علي بن سعيد، وهو يعلم أنه قاتل أخته وأبنائها، وكشفه من خلال السرد عن المكيدة التي أوقع فيها حبيبته التي لاقت حتفها بسببه في لندن.. إلا أنه برأيي استطاع كسب تعاطف القارئ في عدة مواضع من السرد؛ بسبب سعيه للتكفير عن الذنب بالعطاء المادي مع أوفير الناجية الوحيدة من قصفه الجوي لمنزل أهلها، ولضحيته الأولى من خلال سعيه لوضع اسمها على مبنى إحدى القاعات في الجامعة بلندن، ولحرمانه لنفسه من تكوين عائلة كغيره من الناس؛ سعيا منه للوصول إلى بعض التوازن النفسي وتخدير الضمير.

تتصف شخصية البطل علي بن سعيد الأحقافي، بأنها شخصية مؤهلة للقيادة فبرزت فيها العديد من المواقف البطولية التي توضح ذلك، بداية باحتجاجه على تصرفات الإنجليز مع فرقته في الساحل المتحد في يوم عطلة وتحمله لتبعات موقفه، مرورا بالقرار الذي اتخذه بالرجوع للأحقاف سعيا منه في تغيير مجريات الأحداث، وصولا إلى صموده وتفرده بقرار الفداء والوفاء اللذين ينطبقان أيضا على شخصية البطل الأسطوري سالم بن سلم، يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *