اخبار عمان

بنو الأصفر وبيضة النعامة | جريدة الرؤية العمانية

 

الطليعة الشحرية

“أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال”، هكذا دأب رهط المنافقين في ترهيب المؤمنين قبل غزوة مؤتة وهي أول غزوة يخوضها المسلمين خارج حدود الجزيرة؛ وجاء الجواب بعد 200 عام على لسان أبو التمام الطائي” أَبقَت بَني الأَصفَرِ المِمراضِ كَاِسمِهِمُ /صُفرَ الوُجوهِ وَجَلَّت أَوجُهَ العَرَبِ” في رائعته الشهير “السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ” عند فتح عامورية.

غزوة مؤتة كانت بداية كسر الحاجز النفسي الذي سيطر على أذهان العرب قرونًا عديدة، وبسقوطه سقط قطب إمبراطوريات تحكمت بمصير العالم، ويتبادر إلى ذهني سؤال ماذا لو وقع أرجاف المنافقين في قلب المؤمنين يوم مؤتة، فكم من القرون سيحتاجها العرب لكسر رهاب بني الأصفر؟ وماذا لو استمرت كل الشياطين الخرساء بالتفرج وبصمت على كل تلك الجرائم والابادة والنزوح القسري، ببسطها لأنها دماء سُفكت بعيدًا عن عتبة داري، فهل سأعيش بسلام؟ وهل ستنتشر سُحب والهدوء والتسامح والسلام فوق سقف هذا العالم الدموي؟

لقد رأينا السلام الذي تغنى وطالب وطبّل له الكثيرون، بدءًا من اتفاقية كامب ديفيد والتي خرقها الاحتلال الإسرائيلي مؤخرًا؛ وهم ذات الشخوص يا سادة من بالأمس عقدوا المؤتمرات للترويج للتطبيع، واليوم يتسللون من خرم الباب مطالبين بالسلام مع الكيان اللقيط. ولتحقيق بُغيتهم ينشؤون تحالفات وتكوينات كتحالف “كوبنهاجن للسلام”، شغله الشغال التطبيع والمداهن ومسايرة التيار. إنهم رهط من المثقفين والبرلمانين والمفكرين والفنانين وممثلي الأحزاب يرفعون ذات الشعار الذي رُفع قبل 1400 عام قائلين “أتحسبون جلاد اللقطاء والأمريكان كقتال بعضكم بعضًا”، فهيهات أين لنا اليوم بأبي تمام؟

روزا السوداء وهند البنية…

أعَلِمَتْ روزا باركس السمراء التي رفضت التخلي عن مقعدها في حافلة النقل العام في ديسمبر 1955 بعد يوم طويل من العمل على ماكينة الخياطة في مونتغمري عاصمة ولاية ألاباما الأمريكية، بأنها ستتحول إلى مصدر إلهام للعديد من قادة حركة الحقوق المدنية والمقاومة السلمية للظلم الاجتماعي؟ وانتشرت دعوات لحملة مقاطعة حافلات مونتغمري من قبل جميع الكنائس السوداء، وكان هدف المقاطعة هو الاستمرار حتى يحق للجميع ركوب الحافلات بشكل متساوٍ وحر، والحق في الجلوس بأسبقية الحضور.

أيضًا هند رجب التي استُشهدت قبل شهرين في غزة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي وهي مُحاصَرة في سيارة ومحاطة بجثث أقاربها الذين استشهدوا على يد الجيش الإسرائيلي، لم تعلم أن طلاب جامعة كولومبيا قد اعتصموا في قاعة هاملتون الشهيرة بجامعة كولومبيا، وأطلقوا عليها اسم “هند” تخليدًا لذكرها.

إنها بعض قُصاصات من ورق أخبار تضحك وتخزي بحزن، كل تلك الأشعار والاغاني عن القومية والعروبة والجيوش العربية تبخرت، والكثير منا يتساءل: هل جيوش المنطقة نعمة أم نقمة؟

أسدٌ عليّ وفي الحرب نعامة…

مثّلت الجيوش في وضعها الطبيعي حصنًا للأمة ودرعًا لمواجهة المخاطر والتحديات، وبذلك تكتسب أهمية بالغة في الوجدان الشعبي، بوصفها أداة عزة، ووسيلة لحفظ البيضة وصيانة الكرامة. وترتكز العقيدة العسكرية على قيم الشجاعة والنجدة والعزة والتضحية بالغالي والنفيس من أجل الوطن والمواطن وتحتفي الأمم والشعوب بالجيوش من هذا الطراز لأنها تستحق كل ما يبذل من أجل رفع معنوياتها، وتمكينها من مقومات التفوق والانتصار، حتى تؤدي المهمة النبيلة المنوطة بها.  والجيوش التي تتخلى عن عقيدتها العسكرية وقيمها تسقط وجدانيًا في الضمير الشعبي وتشكل مساحة من الفراغ وبيئة خصبة لارتفاعات الفصائل والمليشيات المُرتزقة. واختلال موازين القوى يسهل العربدة والمفسدة وتأمن إسرائيل ولنا في انهيار الجيش العراقي عبرة، فقد تحولت العراق من دولة نفطية ثرية ذات سيادة إلى دولة تمسك بزمام سياستها الفاشنيستا وسيارات الجي كلاس.

فساد العقيدة العسكرية أحد أهم الاستراتيجيات التي يسعى الكيان اللقيط والإمبريالية الصليبية الصهيونية الى تحقيقها، في أحد أهم الأهداف القومية للكيان الإسرائيلي، وحسب ما استشرف الدكتور عبد الواهب المسيري عن الاستراتيجيات الإسرائيلية المستقبلية كانت 6 مداخل أساسية يأتي على رأسها “بلقنة الدول العربية”، نسبة إلى ما حدث في دول البلقان.

مشروع البلقان

والبلقان منطقة جغرافية أوروبية؛ تقع جنوب أوروبا وتعد من أفقر مناطقها وأكثرها تشعبًا من الناحية الثقافية والعرقية. وشهدت حروبًا أهلية دموية أشهرها حرب البوسنة (1992 1995) وبسبب هذه الحرب ظهر مصطلح “البَلْقَنة” وصار مرادفًا للتشتت والانقسام والصراع. ومع انهيارِ المعسكر الشرقي شهدت أغلب دول البلقان ثوراتٍ شعبية تطالب بالديمقراطية ومع نهاية الحرب الباردة بروز كيانات قومية جديدة خرج أغلبها من عباءة يوغسلافيا السابقة.

وترى إسرائيل أن مشروع “بلقنة” الدول العربية أولوية قومية، وهدفًا استراتيجيًا؛ فهي قناعة وعقيدة عسكرية صهيونية لا سلام مع المنطقة إلّا بفتيت وتقسيم الدول العربية الى كيانات طائفية وقوميات جديدة، وربط الاقتصاد العربي بنظيريه الإسرائيلي وجعله تابعًا لها.

ولن تتحقق بلقنة الدول العربية سوى بتشويه العقيدة العسكرية وتفتيت الصورة الوجدانية الشعبية في نفوس العرب. ولذا كان إسقاط هيبة الجيش العراقي أولوية، وهذا ما حاول الاحتلال الأمريكي فِعله بصدام حسين قتل الصورة النمطية للهيبة والقوة. وبتصاعد مجريات اجتياح رفح بالتزامن مع إثارة نعرات ونزاعات مشبوهة تؤرق مضاجع المراقبين، فهل اقتربت ساعة السقوط المدوي لعقيدة عسكرية أخرى، نتكهن ولا نتمنى!

بداية الطوفان نقمة..

أعادت الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية، الذاكرة إلى فورة التظاهرات التي عمّت الولايات المتحدة رفضًا للحرب في فيتنام (التي انتهت في 1975). وسبقت بأشهر بحراك عُرف بـ”ربيع براغ” شهدته تشيكوسلوفاكيا آنذاك مطالبين بالتحرر من قبضة الاتحاد السوفييتي وتكفلت الدبابات السوفييتية بسحق أحلام الحالمين في “ربيع براغ” ودفنت مؤقتًا وعاد للانتفاضة مرة أخرى عند قيام الثورة المخملية وانهيار “جدار برلين” وسقوط الشيوعية.

الاحتجاجات الطلابية الامريكية مطالبها واضحة إيقاف التعاون الأكاديمي والدعم المالي، في حالة تضامن ودخول أحزاب خارجية الى التضامن الطلابي ستتسع رقعة المناهضين ويرتفع سقف المطالبات وصلا الى نقطة تغير السياسيات.

قد يتوقف الحراك الطلابي غدًا، ولكن بعد إحداث شرخ عمقين بين ما يتم تعلمة نظريًا وما يطبق عمليًا وسترتفع النقاشات والتساؤلات حول قيم ومفاهيم “الحريات” التي أسست بموجبة الدستور الأمريكي.

المواطن الأمريكي والغربي ناقم ومُستفَز فقد تم استغلاله لفترات طويل باسم الحرية والتحرير، وبفهم أوسع لخارطة الحراك الطلابي، يمكن القول إن هذه الحادثة فجّرت مكامن الغضب المتزايد لدى عموم الشباب الأمريكي، لكونها تُمثل تجاوزًا صارخًا لقيم الديمقراطية الغربية، وظهرت وكأنها محاولة لتمرير الإبادة الجماعية في غزة بصمت ودون أي معارضة.  اللافت في الاحتجاجات الطلابية الأمريكية أن المشاركين فيها هم من مجموعات وخلفيات مختلفة؛ فهي تضم أعضاء حزب العدالة والتنمية عربًا ومسلمين وأمريكيين ليبراليين، بينما تتألف جبهة التحرير الشعبية أساسًا من يهود ليبراليين مُناهضين للصهيونية، وكثير منهم يقودون هذه الاحتجاجات بشكل مدهش، كما ظهرت في هذه الاحتجاجات شخصيات يهودية بارزة مثل الكاتبة الحائزة على جوائز نعومي كلاين؛ الأمر الذي سلط الضوء على تنوع واتساع الدعم للقضية الفلسطينية.

فشل نيتياهو في بلقنة الضمير الشعبي بوصفه للاحتجاجات الطلابية الأمريكية بأنها “مُعادة للسامية” داعيًا بالنص إلى “قمعها”، ووصف الوضع في الحرم الجامعي بأنه “مُروِّع” فضلًا عن زعمه أن “الغوغاء المعادين للسامية استولوا على الجامعات الرائدة”. لقد دحض الطلاب اليهود المشاركين في الاحتجاجات هذه التصريحات، مؤكدين أن أفعالهم تمثل انتقادات للسياسات الإسرائيلية، وليست تعبيرات عن معاداة السامية.

في عالمنا العربي الذي يعُج بالخاملين يستأسدون على المُستضعفين وينتظرون بلقنة أوطانهم بعد فساد العقائد، لعل وعسى تُكسر بيضة النعامة وتلد لنا “أبو تمام”، فعذر بني الأصفر، قد كان “السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ.. في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *