اخبار تركيا

أردوغان يزيح الأنقاض ليبني أمة.. فماذا بنيتم؟

ياسر عبد العزيز خاص اخبار تركيا

ليس من عادتي أن أرد على كاتب في مقال، وأرى أن حرية الرأي التي دافعت عنها طوال حياتي ودفعت زمنا ليس بالقصير ثمناً للدفاع عنها تسع أن تتقبل كل رأي، وقاعدتي في ذلك أن الحكم هو القارئ، لكن..

إذا تعلق الأمر بالأكاذيب ولي الحقائق وبث الكراهية وشيطنة الآخر والتسفيه من عمله رغم أن الحقائق تدعمه، فإن الأمر يخرج من مساحة حرية الرأي إلى بث السموم، وإذا كان الأمر يتعلق بمصاب أمة، فإن نكء جراحها ينافي المروءة.

في مقال بعنوان “سياسات أردوغان تحت أنقاض.. الزلزال” كتب الكاتب التركي جنكيز تشاندار مقالاً ترجمه موقع 180 اللبناني، ورغم أن خلفيات الكاتب ومنطلقاته جزء مما يكتب، والحكم على الشيء فرع عن تصوره فإن التعريف بالكاتب جزء مهم للحكم على ما كتب ومن أي منطلق كتب، فتشاندار صحفي تركي أتاتوركى النزعة، عمل مستشاراً للرئيس التركي الأسبق طورغوت أوزال، صاحب سياسة الاندفاع نحو الغرب، وتربط تشانندار صداقات وثيقة مع عدد من القادة السياسيين في المنطقة الراحلين مثل جلال طلباني، وحاليين مثل رئيس وزراء العراق السابق عادل عبد المهدي، فكما يقول المثل العربي قول لي من تصاحب أقل لك من أنت.

مقال الأستاذ جنكيز تشاندار حمل الرئيس أردوغان مسئولية الزلزال وانهيار المنازل على ساكنيها، متذرعاً بعشرين عاماً من حكم العدالة التنمية بنيت فيها هذه المنازل بغش وفساد ودون مراعاة العوامل الجيولوجية للمنطقة التي بنيت فيها وسوابق الزلازل التي ضربتها، وليحرك مشاعر الأتراك، ويشاركه من ترجم المقال هذا الهدف لإيصاله للعرب، بدأ وبشكل أدبي الحديث عن الضحايا وذويهم وآلامهم التي تحملوا وآمالهم التي ضاعت، مذكراً بالزلازل التي ضربت تركيا، وصولا لزلزال 1999 الذي يرى أنه ما أوصل العدالة والتنمية للحكم، في اختصار مخل، لأدبيات ورؤية وأهداف ومشاريع الحزب التي قدمها للناخب، ومتناسياً فشل الأحزاب السياسية وعدم تقديمها ما يقنع الناخب، ووعودها الكاذبة عبر السنين، حتى بات لا يثق فيها، وفي محاولة لتسقيط الرئيس وحزبه، ولتفنيد الكذبة أكدت الإحصائيات أن أغلب المباني المنهارة كانت قبل 1999 يعني قبل وصول العدالة والتنمية، بمعنى أن بناءها كان في حقب سيطر فيها حزب الشعب الجمهوري ومن نحا منحاه وخرج من شرنقة الجيش في حينها(حامي العلمانية) كما أن هذه الولايات يسيطر عليها وحتى الانتخابات الماضية على أغلبية من المعارضة الحالية، ويضاف على ذلك، أن جل المباني التي سقطت أصحابها من أحزاب المعارضة وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، وليسوا عصابة الخمسة، كما ادعى تشاندار لتشويه كل جميل زين وجه تركيا.

وانتقد المقال الرئيس لتفسيره ظاهرة طبيعية بأنها من قضاء الله، وكأن الرجل رافض لهذا التفسير، رغم أن أقوى أجهزة الرصد الزلزالي، وأقوى الحكومات في العالم اقتصادياً وعلمياً لا تستطيع أن ترد هذا القضاء، في ظل زلزال بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر تشققت معه الجبال وأزاح تركيا بأكملها لأمتار عدة إلى الجنوب، بحسب العلماء ورصد الأقمار الصناعية.

ويرى تشاندار أن الأجهزة المعنية لم تتحرك في الوقت المناسب لأن الرئيس كان غائباً عن المشهد، ولأن هذه الأجهزة لا تتحرك إلا بأوامر من الرئيس نفسه، وهو ادعاء، لا يقبله أمي في هذا العصر في جزيرة نائية في المحيط الهندي، أما الرئيس فقد ظهر من اليوم الأول ليتابع ومن اللحظة الأولى تحرك نائبه الدكتور فؤاد أوقطاي، الذي تحمل مسئولية (أفاد) هيئة الكوارث التركية في فترة من الفترات، في قرار يراه المنصفون توزيع المهام بحسب التخصص، ثم ينطلق الرئيس إلى المناطق المنكوبة رغم استمرار الزلازل الارتدادية ويبيت فيها غير مكترث بمصيره وبالمخالفة للتعليمات الأمنية التي تمنع ذلك.
في خطابه في فندق بيلكنت بمناسبة تأسيس الحزب، صرح أردوغان أن حزبه سيتبنى خطاب يمثل العقل الجمعي للأتراك ويحارب من أجل الديمقراطية والانضمام للاتحاد الأوروبي كعضو بكل الصلاحيات بعد أن يحقق المعايير الموضوعة من قبل الاتحاد لجودة ورفاه الحياة في البلدان المنضمة، جنباً إلى جنب مع الانعتاق من الوصاية ومحاربة الفساد والفقر، لينهي كلمته “بعد اليوم، لن يكون هناك شيء على حاله في تركيا”

ولعل الأيام تصدق الرجل فيما قال فلم يعد شيء على حاله في تركيا، فمتوسط دخل الفرد في 2001 كان 3,500 دولار ليتضاعف خلال سنوات حكم العدالة والتنمية ليقارب الــــ 12 ألف دولار، كنتيجة طبيعية لزيادة الناتج المحلي الإجمالي الذي وصل إلى 4 تريليونات و258 مليارا ليرة تركية في نهاية العام الماضي، بعد إخفاقات اقتصادية الكبيرة التي شهدتها تركيا ما قبل العدالة والتنمية، وصلت إلى حد تقاتل الناس في الشوارع أمام البنوك، والفضل في ذلك يرجع لسياسات الحزب والانضباط المالي والتحول الهيكلي الذي تبناه، منذ أن مسك بريشة رسم السياسات الاقتصادية للبلاد، فتعافت تركيا سريعاً من الآثار السلبية لأزمة 2001 المالية، وحققت معدل نمو مطرد، كما نجت من أزمة 2008 المالية العالمية وحقيق للحزب الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ما جذب رؤوس الأموال بعد أن كانت تهرب من الانقلابات والفساد الذي كان يسيطر على البلاد.

وعلى صعيد التجارة الخارجية، تنمو صادرات تركيا بشكل مستمر، على الرغم من المشكلات البنيوية وارتفاع سعر الفائدة، وانخفاض قيمة العملة المحلية بفعل المضاربات، فاستطاع الحزب تحويل أزمة سعر الصرف إلى فرصة، فقفزت الصادرات السلعية إلى 225 مليار دولار بنهاية عام 2021، كما تشير أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي إلى أن قيمة صادرات التكنولوجيا المتقدمة في تركيا عام 2020 بلغت 4.17 مليارات دولار، وهي أرقام لم تكن لتتحقق لولا سياسات اقتصادية وعلاقات خارجية تخدم عليها، ناهيك عن البنية التحتية الجبارة والمواصلات والجسور التي قربت المسافات لتخدم التجارة الداخلية وتسهل عمليات التصدير وتوفر في نفقات المحروقات، التي اتخذت الحكومة خطوات جريئة ليس فقط في سبيل أن تكون تركيا موزعا عالميا مهما للطاقة بل منتجا أيضاً يسعى للاكتفاء الذاتي.

وعلى ذكر السياسات، فأستشهد بما حققته السياسات الخارجية لحكومة العدالة والتنمية، بتصريح رئيسة الوزراء السابقة تانسو تشيلر، بأن حكومات تركيا كانت تستجدي مقابلة المسئولين الغربيين، والآن أصبحت تركيا فاعل رئيسي في رسم السياسات الإقليمية والدولية. هذا لم يكن إلا بجهود حزب العدالة والتنمية الذي لعب بذكاء على متناقضات السياسة الدولية ليصبح رقما صعبا في معادلة كتابتها.

هذه الكلمات أكتبها متحسراً على أحوال بلدان في جوار تركيا أكثر غنىً وموارد لكن ينخرها الفساد فضاع أهلها وتهمش رأيها وباتت تبعاً لأقزام لم يكن لهم ذكر في التاريخ، في وقت يعيد أردوغان والمخلصون ممن حوله كتابة تاريخ بلاده التي تكالب عليها الغرب حتى ركعوها، ولا يرجف لهم طرف حتى يبقوها راكعة، لم ينته حلم إحياء الإمبراطورية التي صاغها “العثمانيون الجدد” سيد تشاندار ولن ينتهي في صدر كل تركي مخلص يريد لبلده أن ترفع رأسها، أما من وجه بوصلته نحو الغرب أملاً في فتات يلقونه في العادة لطوافات بيوتهم، فهو من يتمنى زوال حلم تركيا القوية، وستصبح تركيا قوة إقليمية ودولية كما حلم العدالة التنمية وكل حر وطني يريد لهذا المشروع أن ينجح، سواء ممن يصوت للعدالة والتنمية أو من يحلم بتكرار التجربة في العالم العربي والإسلامي، وسيزيح أردوغان الأنقاض ليبني أمة لم تستطع الأحزاب التي حكمت ثمانين عاماً، وكان كل إنجازها أن تحسن الركوع أمام الغرب.

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *