اخبار عمان

القرية العالقة (2) | جريدة الرؤية العمانية

حمد الناصري

أحسّ أحمد بشعور الحزن، وبدا كطائر مُنكسر الجناح. طافتْ على مُخيلته، كثير من المواقف رغم حداثة سِنّه، لكنه كان قوي الذاكرة. تماثلتْ صُورة الرجل العجوز المُسجّى وقد اصفرّ وجهه وتجمّد جسده.

بقيتْ أُمه إلى جانبه تبكي وتنتحب وكذا عمته وبعض نسوة القرية، يُشاطرنها، بكتْ كثيرًا، وأبكتْ اللّواتي تحلّقنَ حولها. وضعتْ يدها فوق جفنيه وأرْخَتْهما حتى أغمضتْ عينيه، لكأنّ دِفْء العِشْرة ورِقّة المودّة، تُؤكّدان ذلك الفضْل الذي لا يُنسى بينهما.

حملتْ شيئًا ثقيلًا وألْقتهُ على جسده المُسجّى، ثمّ أتبعتهُ بغطاءٍ سميكٍ من رأسه إلى قدميه، غطّته بالكامل.

انسحبتْ خديجة بِخُطىً ثقيلة إلى داخل الدّار، تركتْ للرجال شأنهم.

رجل مُشتعل الراس أخذ ينتحب مُتأثرًا بفجيعة العجوز المُسجّى. يبكي بُكاءً مُرًا ودُموعه تُبلّلّ مَصرّه الذي تركه على كتفيه، كمنديل يتمخّط في طرفيه.

استلهم أحمد من هذه الطريقة أنّ غفوةَ أبيه أبدية لأوّل مرة يعرف طريقة وضْعها.!

***

عند صحوة الفجر، كانت بسمات الصباح تشقّ عن رَوعةٍ أخّاذة.. صَوّب أحمد عينيه ناحية طريقٍ واسع، تذرعهُ السيّارات جيئةً وذهابًا، هدير أصوات عجلاتها واحتكاك هيكل أجسادها لكأنّها تصطدم في بعضها. لا يقتصرُ أزيز وهدير الأصوات على سياراتٍ صغيرة، فالمركبات الكبيرة، هي الأخرى لا تَهجع، تستفزّ بضجيجها القرية؛

استحضر أحمد المشروع وأمه تقترب منه:

مشروع جميل يا أمي ولكن الناس كما علمت لم يكونوا مَرنين مع مُتطلبات المشروع ولم يكونوا أيضًا مُتوافقين مع السّاعِين إلى منفعتهم وحاجاتهم.

خافتْ خديجة أنْ يكون أحدًا قد سبقها وأدخل فكرة المشروع إلى إبنها التي تنتظر أنْ يكون رافضًا لفكرة المشروع مثل أبيه…؛ وتحدثت إلى أحمد:

المشروع قال عنه عبدالله ، بأنهُ غير مُجْدٍ للقرى الساحلية ، مشروع يستنزف عصب ميزانية السنين ، لا منافع ولا شيء يُرتجى منها، إلا أنْ تُعطّل مهنة الصَيد ، وتُشتت جمع الرجال، مَشروع لن تُؤتي ثمارهُ بمنفعة مُباشرة للقرية وأهلها ، غير أنّها فِكْرة تقوم بنقل القرية من قرية حاضرة البحر إلى قرية بعيدة، كثيرة المَشقة والعَناء للذين يكسبون رزقهم من حرفة الصيد ، ثمّ لا تلبث وبَعد حين من الزمن يترك البحارة مهنتهم وتفقد القرية مكانتها.!

كانت ركبتها عند ركبتيه. بُني، قريتنا عميقة الجذور، فإنْ لم يقم أحد من الناس، ويشدّ من عضد الرجال، فسوف يأتي يومًا ولا نجد من يَعتز بالموروث، وتموت القِيَم رخيصة كموتة عبدالله ثم تتقادم بفعل السِنين؟

قال أحمد بلطف :

بعض الأسباب قد تجعل النهاية صَعْبة. وقد يَلحق بنا الضرر بمقدار صُعوبة النهاية؛ ورأيي، أنّ ضرر المشروع ليس كبيرًا ولا يُشكّل تهديدًا ولا خطرًا على حياة الناس.

والحياة لا تتوقف، فقط تحتاج إلى مُرونة.  كيْ لا تتحوّل المَنفعة إلى ضرر.

سكت.. وكأنه يُتيح لأمّه التعليق على كلامه، قالت خديجة بهدوء:

نعم، كلامك عين الصّواب، لكنَّ أباك كان شديد الاعتزاز بقريته، رفض المشروع، بحجة أنّ المشروع فِعْل مُتعمّد لهَدْم القرية وهَدْم القِيَم والمَوْروث !! وكان يقول ، منْ أينَ تَسْتقي الأجيال اعتزازها، إذا تغاضيْنا عن قِيَم القرية؛

بقي أحمد بُرهة صامتًا وبَعد حمحمة قال بلطف وهدوء:

ليتَ أبي سمعَ كلامك، وتوقّف عن شدّته؛

أردفتْ أم أحمد وكأنها تحمل ابْنها على سيرة أبيه، ليرفض مشروع هدم القرية، وضعتْ يدها على طرف لحافها ومسحت دمعتها؛ قلتُ ل عبدالله:

دَعْنا نحمل ما يُمْكننا حَمْله من متاعٍ وأثاث، حيث أهلُنا وعشيرتنا. موطن جُذورنا الأوّل، بَعيدًا عن ذرائع المشروع.

ليته سمع كلامك! ” كرّرها أحمد وفي داخله غصّة. وغمغم، لو كانت قرية الجبل قريبة، لكان الوضع أحْسن.

لا يزال الرجل الأشيب في مُخيلته، بلحيته الطويلة ووجهه العريض، اتّسعتْ حدقتا عينيه، دَهْشةٍ تملّكته.. لمْ يغبْ عن باله ذلك الرجل المَتين ، قصير القامة، عريض المنكبين، يتذكّرهُ وهو يُمسك بيده عصًا ويهزّها في وجه رجل هزيل. يتذكّر ذلك الموقف. مُذ أنْ كان صغيرًا، وهو يتساءل في نفسه، تُرى من يكون ذلك الرجل الاشيب عريض المنكبين؟ وما هي أحداث موقف نوبته التي لم أراهُ بعدها. ؟! وهمّ بسؤالها ولكنّه، أسرّها في نفسه ولم يُبْدها لأمّه؛

زوّت عيناها جهة اليمين وقالتْ بحزن :

إيه.. يا عمي؟

توقّفت قليلا، ومُخيّلتها تستدعي صُورة عمّها ثم واصلتْ شحن ولدها بانفعال لتحقيق هدفها، بأنّ ذلك المشروع ظُلم للقرية.

ليتكَ تعود يا عمّي!

هل ذلك الرجل السّمين ذو الوجه العريض والذي لا يترك العصا ، هو عمّك.؟

نعم..  ليته يعود ، ليعلم بأنّ أحمد أصْبح رجلًا يُعْتد به.؟

هل مات عمّك أم ما زال حيًا؟

فاجأتْهُ نوبة هَوْسٍ شديدة، لم نعرف عنه شيئًا؛

إذنْ ، هو لم يَمت، يقولون ، الغائب حُجته معه ، حتى يَعود إلى أهله سالمًا..!  سكت، وهو ينظر في وجهها.. أليس كذلك؟

نعم.. قالت بحزن.

يُتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *