اخر الاخبار

ربة الينبوع في العاصمة البرلمانية الأوروبية

إبراهيم العلوش

في صدر قاعة دخول مكتبة “BNU” بمدينة ستراسبورغ، ثاني أكبر مكتبة في فرنسا، تقف ربة الينبوع السورية وقد جف الماء في جرتها التي كان يتدفق الخصب والنماء من مائها، وتشاركها صورة كبيرة لفلاحين من دير الزور مع عالم الآثار أندريه بارو الذي اكتشف مدينة ماري في العام 1933.

تستضيف هذه المكتبة الوطنية، والجامعية، معرضًا عن مدينة ماري يتجول في أوروبا، وقد تعاونت عدة جامعات ومتاحف على إقامة هذا المعرض، ومن أشهرها متحف “اللوفر” الذي زود المعرض بعدد من القطع الأثرية الثمينة، وقد صدر كتاب فخم عن المعرض اسمه “ماري في سوريا” من 300 صفحة، فيه بحوث وصور ملونة بدقة عالية، ومع المعرض تقام فعاليات ثقافية بمعدل كل أسبوع محاضرة أو تدريب على جانب أثري عن المنطقة، اعتبارًا من 7 من شباط حتى 26 من أيار من العام الحالي، ويتحدث في هذه الفعاليات كبار علماء الآثار وخبراء الأركيولوجيا ومحبي مدينة ماري، وقال لي أحد العلماء: إنني أحلم كل يوم بزيارة مدينة ماري!

في صباح يوم ربيعي عام 2010 وصلت مع عائلتي إلى مدينة ماري، وكانت المفاجأة للأطفال أن مدينة ماري ليست قلعة كبيرة يركضون في جنباتها، وليست فيها إطلالة على الفرات مثل مدينة الصالحية الفاتنة، وجدنا أنفسنا أمام تلة وجدران من الطين بدأ رسمها على الأرض قبل خمسة آلاف سنة، ولا تزال مستمرة في الوجود إلى اليوم، وقد فتنتنا ربة الينبوع في صدر المكان قرب مكان المكتبة الكبيرة التي تم اكتشافها، وكانت تحوي 20 ألف لوح طيني كُتبت باللغة المسمارية التي تطورت على يد السومريين والبابليين والآشوريين الذين واكبتهم المدينة.

زودت تلك الألواح علماء الآثار برصيد علمي وثقافي يمكنهم إعادة فهم التاريخ السوري وتاريخ منطقة الهلال الخصيب، ويضيء أجزاء من صفحات التاريخ التي كانت مجهولة، ولعل تمثال الأسدين البرونزيين من أجمل الإضاءات الفنية المضافة إلى رسوم الجدران الملونة، التي تزين القصر الكبير الذي كان يحتوي على 275 قاعة وغرفة، وكان مفتوحًا في أجزاء منه للعامة.

ابنتي الصغيرة شام التي ولدت بعد زيارتنا إلى مدينة ماري، اصطحبتها إلى إحدى الفعاليات المصاحبة للمعرض، وهي الكتابة على الطين باللغة المسمارية، وفي بداية العمل قالت المدربة: نتناول “الكلم” ونكتب على الطين. صحت بشكل لا شعوري يعني “القلم” كما نقول في العربية، ردت المدربة التي تتقن العربية أيضًا، نعم هي نفس الكلمة التي كانت تستعمل في كتابة الألواح بمدينة ماري، واستعرضت مدربة أخرى تاريخ الكتابة بالقول إن أول الكتابة في اللغة المسمارية كانت هي الأرقام، وليس الأحرف، لأن التجار كانوا حريصين على جرد ممتلكاتهم من الأشياء والحيوانات والعبيد، وبعدها اضطروا إلى كتابة المقاطع الصوتية للدلالة على أسماء الممتلكات التي تطورت من الكتابة الصورية إلى الكتابة الرمزية التي صارت عليها لغات العالم اليوم.

ما يلفت في رسومات قصر ماري هو حضور المرأة، من عشتار ربة الجمال والخصب، إلى بنات الملوك اللواتي أصبحن وزيرات، إضافة إلى الملكة التي تظهر غالبًا مع الملك في الرسومات والصور والمنحوتات، وكان رسم الجسد العاري نوعًا من الجمال والتحدي في صور القصر، وليس نوعًا من العار كما هو سائد في ثقافتنا القبلية والدينية اليوم.

هذا الانحباس في فهم المرأة وعدم تقديرها يشكل مشكلة اجتماعية، ليس فقط لدى الأحزاب الدينية التي مزجت التراث البدوي مع التراث الديني، بل حتى الحزب الشيوعي السوري لم يتمكن من إظهار امرأة مشهورة في صفوفه، إلا وصال فرحة بكداش، التي كان دورها نقل وراثة زعامة الحزب الشيوعي من زوجها خالد بكداش إلى ابنها عمار بكداش، وفي صفوف النظام السوري لم تكن على قائمة الشهرة إلا نجاح العطار، التي كانت رهينة عن أخيها عصام العطار، المرشد السابق لجماعة “الإخوان المسلمين”، وقد خلفتها في الشهرة  بثينة شعبان التي تلخص إرث علي دوبا وشبيحة عائلة الأسد.

المحاضرات المصاحبة لمعرض ماري مكتظة بالحضور، وكثيرًا ما اضطررت للوقوف جانبًا لعدم حجز مقعد مسبق، ويتركوننا ننتظر بداية المحاضرة لنأخذ مقاعد المتخلفين عن الحضور، وتجد في القاعة مجموعة كبيرة من علماء الآثار، وطلاب التاريخ، والجمهور العام، ويتم النقاش بسوية علمية عالية المستوى تصل إلى إدخال الذكاء الاصطناعي في الكشف الأثري، الذي يلاقي الرفض من قبل علماء الآثار المسنين. وبمناسبة هذا المعرض استجابت بلدية ستراسبورغ للنظر في مشروع قيام متحف عن الشرق الأدنى وإرثه الحضاري، وأطلقت حملة جمع تبرعات من أجل دعم هذا المشروع.

في المعرض الذي لا يبعد عن البرلمان الأوروبي إلا بضع مئات من الأمتار، تجد صورًا وشروحات تصور مختلف مراحل استكشاف ماري وأهم القطع المكتشفة، وتجد صورة جوية لمدينة ماري ملتقطة من قبل طائرة مسيّرة بعد أن فتحها تنظيم “داعش” للنهب والحفر العشوائي الذي دمر الكثير من معالم المدينة، وخرّب جهود علماء الآثار التي راكمت 90 سنة من الاستكشاف والبحث، لتنتهي هذه المدينة السورية أخيرًا بأيدي الميليشيات الإيرانية المستهترة بالمكان وبإرث شعبه، ولا يهمها إلا نشر ثقافة العنف والكراهية التي ستبتلعها ذات يوم ليس ببعيد.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *