اخبار عمان

“طوفان الأقصى” ونتائج قمع الوعي العربي

 

علي بن مسعود المعشني

[email protected]

يُعرِّف علم النفس نظرية قمع الوعي بأنَّها “طريقة لإبعاد الذكريات أو الأفكار أو المشاعر غير السارة لتجنب التعامل معها. والذكريات المكبوتة هي ذكريات يتم تخزينها في العقل اللاواعي ولا يمكن للعقل الواعي الوصول إليها. وقد لا يُدرك الفرد حتى إنه يقوم بقمع ذكريات أو أفكار أو عواطف مُعينة. ويُعتقد أنَّ القمع هو آلية وقائية تساعد الأفراد على تجنب الألم العاطفي أو الصدمة”.

يتبينُ لنا مما ورد أعلاه أن طريقة قمع الوعي في الأساس، هي طريقة ووسيلة علاج لمن يعانون من تراكم الذكريات والمشاعر السلبية، عبر مراحل عمر الإنسان والتي لا تخلو منها نفس، ولا ينجو منها إنسان. ومن هنا يمكننا التسليم بأنها طريقة علاجية لحالة نفسية معروفة لدى علماء النفس والمشتغلين به.

لكن الإنسان بطبيعته وعبر مراحل تاريخ الحضارة الإنسانية، بين شغفه بتوظيف العلوم والمعارف بطرق أخرى في سياق الصراع بين الخير والشر؛ فالعالِم السويدي ألفريد نوبل مثلًا اخترع الديناميت لكي تساعد الإنسان في التغلب على تحديات الطبيعة من جبال وصخور ووديان سحيقة، ولكن من أتى بعد نوبل وجدها سانحة لتطوير الديناميت إلى قنابل وأسلحة مدمرة للبشر والشجر والحجر، لهذا كفَّر نوبل عن غلطته متأخرًا بتخصيص جزء من ثروته لجائزة تحمل اسمه تُخصص للساعين لإحلال السلام، والتي تفرَّعت بعد مماته إلى أفرع علمية أخرى ثم حولها الغرب إلى أداة لشراء الذمم واستقطاب من يخدم أجنداتهم، فتحولت جائزة نوبل من هدف نبيل إلى نوايا سيئة، حين تم توظيفها في الصراعات الحضارية بين الغرب والآخر.

وبالعودة إلى عنوان المقال، يمكننا القول إن نظرية قمع الوعي وظَّفها الغرب كذلك وحوَّلها من نظرية وطريقة علاج نفسي، إلى نظرية وطريقة تفريغ الذاكرة الجمعية للشعوب المستهدفة وإعادة تشكيل وعيها؛ بما يُمهِّد لسكب وعي بديل، يتقبَّل الطرح الغربي ويتجنب موروثه وقيمه تحت شعارات براقة وفضفاضة. صراعنا الوجودي مع الغرب كأمّة عصِيَّة في ضعفها وعصِيَّة في قوتها، لم يخلْ يومًا من مفردات قمع الوعي حتى يتمكن الإلحاح من إحلال الوعي الجديد في عقول ووجدان أبناء الأمة قسرًا.

لم يتمكن مخطط قمع الوعي من تحييدنا من موروثنا القيمي، ولا من إعلاء شأن الموروث الآخر عليه فحسب؛ بل تمكن المخطط من إيصالنا إلى مرحلة التجاسر على الموروث والثوابت بصورة جارحة ومستفزة. وقد أُوكلت هذه المهمة للأسف إلى من يُرجى منهم تحصين الوعي والدفاع عنه وقيادته؛ وهم فئة النُخب الفكرية، والتي مارست بث مفردات ثقافة البؤس والفجيعة بين أجيال الأمة بذريعة الغيرة والاستنهاض، وبغرض آخر غير مُعلن وهو المكانة والحظوة والوجاهة الفكرية.

“طوفان الأقصى” اليوم لم يكتف بإظهار عوارنا السياسي والعسكري والاقتصادي رغم القدرات والخيارات التي لا تُحصى فحسب؛ بل أظهر حجم العوار الفكري والاستلاب اللذين تحولا إلى أعمال وسلوك على الأرض وجعلنا نتجرع الهزائم الفكرية قبل الفعلية وننتجها بجدارة. لهذا أصبح حالُنا شبيهًا بحال جُحا في التراث العربي، حين هاجمه اللصوص وهو حامل للسيف في يمينه والعصا في يساره؛ حيث برر عدم مقاومته للصوص بانشغال كلتا يديه بالسيف والعصا، فهل يُقاتل اللصوص بأسنانه؟! فحين تنقسم الأمة وتختلف في تعريف العدو والمحتل، والمظلوم وصاحب الحق، وتساوي بين الجلاد والضحية، ويتعذَّر عليها فهم المصطلحات وتفسيراتها، وتختلف على فهم الثابت والمتحول، والخلاف والاختلاف، والأصول والفروع، فهذه دلائل دامغة على وصولها مرحلة مُتقدمة من أعراض قمع الوعي وبلا وعي منها.

قبل اللقاء.. يسعى الغرب عبر قاعدته المُتقدمة واستثماره الاستراتيجي المسمى بـ”إسرائيل”، إلى إطلاق رصاصة الرحمة على ما تبقى من الوعي لدى عرب زماننا عبر ما يُسمى بـ”السلام والتطبيع” وأخواتهما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *