اخبار عمان

الجامعة المُنتِجة.. نهج التمويل الذاتي والتنافسية الدولية

د. مسعود بن علي الحارثي

[email protected]

يُعد التمويل من أهم قضايا التعليم العالي، ويشغل توفير الموارد المالية اللازمة لتمويل أنشطة العملية التعليمية مساحة واسعة من اهتمام المعنيين بالتخطيط التعليمي.

ومع نهاية القرن العشرين، شهدت مؤسسات التعليم العالي تحولًا جذريًا في أدوارها التعليمية والبحثية، وذلك استجابة للمتغيرات الإقتصادية والإجتماعية؛ والتفاعل مع احتياجات المجتمع الذي تعمل فيه وتحدياته. وفي ضوء تلك المتغيرات، زاد طموح الجامعات لتطوير وتحديث برامجها التعليمية والبحثية، وزاد بالتالي حاجتها للدعم والتمويل، وهنا بدت أهمية تبني مفهوم “الجامعة المُنتِجة”، كأحد البدائل التمويلية المتاحة.

وقد تناول العديد من المهتمين باقتصاديات التعليم في دراستهم موضوع التحول إلى نموذج “الجامعة المُنتِجة” كونها أحد الخيارات التي يمكن المراهنة عليها لإحداث التغيير والتطوير في المؤسسات الجامعية. وأظهرت هذه  الدراسات أن البحث العلمي، والشراكة بين قطاعات العمل والصناعة، والتوجه إلى تنويع مصادر التمويل، والتحول نحو فكرة التمويل الذاتي، تمثل في مجملها وسائل حيوية في تطوير المؤسسات الجامعية وتنافسيتها الدولية.

وأخذًا في الإعتبار حجم الإستثمارات المالية التي يتطلبها تشغيل مؤسسات التعليم العالي والتوسع فيها، فإن الجامعات، وخصوصًا في الدول النامية، والتي تعتمد معظم جامعاتها على التمويل الحكومي بشكل كبير، قد يجعلها تتأثر بشكل أو بآخر بما تتعرض له الميزانيات الحكومية من نقص أو التزامات طارئة. لذا؛ فقد توجهت العديد من الجامعات إلى التفكير في تطوير أساليب تضمن استمرار التمويل في فترات تقلص الدعم الحكومي. ومن أبرز البدائل المتاحة أمامها، كما أشرنا إليه آنفًا، ما يطلق عليه  فكرة «الجامعة المُنتِجة»، وهو نهج اتبعته الجامعات العالمية ذات السمعة المرموقة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة؛ كإحدى سياسات تجديد مصادر تمويلها، وتقليل اعتمادهما على التمويل الحكومي. وهذا المفهوم يعني باختصار أن تعمل الجامعة على زيادة مواردها من الخدمات التي تقدمها للآخرين، مع المحافظة على التزاماتها العلمية والثقافية تجاه المجتمع في الوقت ذاته. وهو، في ذات الوقت، لا يعني بأي حال من الأحوال أن تعامل الجامعة أو يتوقع منها أن تتصرف كشركة تجارية، فللجامعات رسالة وأهداف تختلف عن تلك التي تسعى لتحقيقها الشركات التجارية؛ وهي أهداف يجب أن تقدر وتصان بعيدًا عن المفهوم التجاري التقليدي. وأما المفهوم “التجاري” في حالة «الجامعة المُنتِجة» فهو من أجل أن يدعم المهام الرئيسة في الجامعة، ويعينها على تأدية رسالتها، وتحقيق أهدافها، وتنفيذ مشاريعها على نحو أفضل.

وهنا قد تظهر بعض التساؤلات، وهي، كيف يمكن لمفهوم “الجامعة المُنتِجة” أن يسهم في تعزيز تمويل التعليم العالي وتنويع مصادره؟ وما مسوغات تبني هذه الفلسفة في منظومة التعليم الجامعي، وماهي آليات التحول إلى أنموذج “الجامعة المُنتِجة”؟ هذه التساؤلات وغيرها مما له صلة بهذا المفهوم ستكون محور هذا المقال.

لماذا “الجامعة المُنتِجة”؟

يشير مصطلح “الجامعة المُنتِجة” Productive University إلى تلك المؤسسة التي تحقق وظائفها المتوقعة، والتي تتمثل في التعليم، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع، والتي تتكامل فيها هذه الوظائف لتحقيق بعض الموارد المالية الإضافية. والجامعة المُنتِجة، كما يعرفها حسن (2015)، هي “مؤسسة مُنتِجة قادرة على تسويق إنتاجها العلمي، وتقديم خدمات الخبرة والإستشارة والبحث للغير، بما يضمن لها موارد مالية ذاتية قابلة لإعادة الإستثمار في تحسين برامجها، وأنشطتها، وخدماتها”. أما Ashoor (2020) فيرى أن الجامعة المُنتِجة هي “الجامعة المتفاعلة مع المجتمع، من خلال مجموعة من الأنشطة والبرامج الإنتاجية المضافة لأدوارها الرئيسة، تحقق من خلالها موارد إضافية لها، وتعزز من موازنتها، وتعطيها المرونة الكافية لتطوير بعض أنشطتها وخدماتها التعليمية”.

إذاَ، فإن مفهوم” الجامعة المُنتِجة” يشير إلى وجود تغييرات جوهرية في سياسات واستراتيجيات التعليم العالي، من خلال تنويع الجامعة في برامجها وأنشطتها، وخروجها عن الأنشطة التقليدية المألوفة، واستحداثها آليات مبتكرة تمكنها من تحقيق عائد مالي أفضل للجامعة، من ناحية، ورفع كفاية كوادرها الوظيفية، وتسويق مخرجاتها بشكل يستجيب مع سوق العمل المحلي، والإقليمي، والعالمي، من ناحية أخرى.

وقياسًا على ذلك، فإن مفهوم الجامعة المُنتِجة لا يختلف عن جوهر فلسفة الجامعة، فهي مؤسسة تعليمية وحضارية رائدة، تمثل توجهًا جديدًا يمكن أن تفعل من خلاله دورها الريادي في حركة المجتمع وتطوره، وتفعيل الشراكة المجتمعية مع مؤسساته الحكومية والخاصة، من خلال ما تقدمه من خدمات وبرامج وأنشطة إنتاجية يمكن أن تحقق بعض الموارد المالية التي تساعد على تطوير أدائها، وتحقيق أهدافها، ورفع كفاءتها الإنتاجية.

وفي هذا الصدد، يمكن القول إن أهمية الجامعة المُنتِجة تكمن في: (أ) المشاركة المباشرة في التطوير والإبتكار. (ب) إجراء البحوث المرتبطة بحقل الأعمال للمساعدة في حل المشكلات الإنتاجية التي تواجه القطاع الصناعي والإنتاجي والخدماتي. (ج) توسيع برامج التدريب والتعليم المستمر. (هـ) تقديم الإستشارات الفنية لمؤسسات القطاع الحكومي والخاص، ومعالجة تحديات حقل الإنتاج والأعمال. (و) القيام بالبحوث التطبيقية في المؤسسات الصناعية والإنتاجية والخدماتية. ومن هذا المنطلق، فإن قيام الجامعة المُنتِجة بتحقيق هذه الأهداف، أسهم في تحويل الجامعات في الدول المتقدمة والصناعية من جامعات تعتمد كليًا على التمويل الحكومي، إلى جامعات قادرة على تمويل ذاتها، وتطوير برامجها وأنشطتها، من جهة، وإلى جامعات استثمارية تحقق عوائد مالية إضافية تسهم في دفع عجلة التطور والإزدهار فيها، دون أن تفقد وظائفها الرئيسة كجامعات مرموقة، من جهة أخرى.

كما أوضحنا آنفًا، أن الإهتمام الدولي بتنوع مصادر تمويل التعليم العالي تزايد في العقود الأخيرة، وذلك بسبب انخفاض الدعم الحكومي لمؤسسات التعليم العالي، مما أجبر كثير من هذه المؤسسات الجامعية على التوجه بشكل أكبر نحو تنويع مصادر تمويلها. وعندما نقول بتنويع مصادر تمويل التعليم العالي، فلا يعني ذلك إلغاء التمويل الحكومي، وإنما البحث عن مصادر بديلة ومتنوعة، إضافة إلى التمويل الحكومي. أي أن فلسفة التمويل الذاتي لا تعني الإستغناء عن دعم الحكومة وتمويلها لهذ القطاع الحيوي، وإنما ترى ضرورة تدعيم هذا التمويل من خلال استثمار الموارد الذاتية سواء كانت بشرية أو مادية أو مالية. ولذا، فإن فكرة التمويل الذاتي يمثل إحدى العمليات التمويلية التي تستخدمها مؤسسات التعليم العالي في توفير نفقاتها، بالإعتماد على مواردها الذاتية، ومن خلال استثمار إمكاناتها المختلفة؛ فهي عملية تخطيط مقصودة تهدف إلى الحصول على موارد مالية من مصادر غير حكومية.

وفي السياق ذاته، فإن التمويل الذاتي لمؤسسات التعليم العالي، بحسب ما يراه عديد من خبراء اقتصاديات التعليم، يسهم في تحقيق نوع من الملاءة المالية للمؤسسة، ويعمل على تشجيع الإبتكار، وتعزيز الكفاءة والفاعلية لها، ويتيح إقامة علاقات بيئية مستدامة، ونماذج جديدة للتفكير والتدريب. وكما يشير مايور (Mioer, 2004)، المدير العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”، إلى إن إقتصار نشاط الجامعة على الجانب التعليمي والبحث الأكاديمي خلق فجوة كبيرة بين رسالتها في خدمة المجتمع وطاقاتها المعرفية غير المستثمرة، مما يعطل جانبًا حيويًا من مواردها الإقتصادية المتاحة في تحقيق مصادر تمويل إضافية ومتنوعة، تسهم في تغطية العجز المالي وتحقيق عوائد استثمارية للجامعة، من ناحية، وتطوير وتنمية المشاريع، والتنمية الإجتماعية كجزء أساس من رسالتها الجامعية، من ناحية أخرى.

إذن.. يمكن القول الجامعة مؤسسة مُنتِجة تعمل على زيادة رصيد المعرفة والإستفادة من التراث العلمي والإنتاج الفكري للبشرية ورفع كفاءتها الإنتاجية، وتهيئة فرص النمو الإقتصادي داخلها، من خلال العمل في مشاريع بحثية إنتاجية، والإنفتاح على المجتمع وتكوين علاقات متبادلة مع المؤسسات المختلفة. بمعنى أن تكون الجامعات بمثابة الوسيط المحرك لإمكانات المجتمع وقدرته على العطاء والتقدم.

وإضافة إلى ما سبق، وعند البحث في جوانب آليات التمويل في عدد من الجامعات العالمية التي تعتمد نموذج “الجامعة المُنتِجة” كإحدى سياسات تجديد مصادر التمويل، يلاحظ من بين تلك الآليات التي اتخذتها بعض هذه الجامعات، الآتي: تنظيم المؤتمرات والندوات العلمية والثقافية على المستويين الوطني والدولي، والدورات التدريبية، والشراكة مع القطاع الخاص. وكذلك تشجيع التبرعات من الأشخاص القادرين لصالح صندوق الطالب، أو تمويل برامج الجامعة وأبحاثها العلمية. وهذا ما يفسر اهتمام العديد من الجامعات العالمية العريقة بالإستثمار في الأوقاف الجامعية، والذي هو في مفهومه العام “تبرع لصالح المؤسسة التعليمية من أصحاب الأعمال الخيرية، أو رجال الأعمال، أو من الأفراد، ويستثمر المبلغ من قبل هذه المؤسسة التعليمية، بحيث تصب أرباح هذا الإستثمار في دعم البنية الأساسية لها، أو تطوير مختبراتها وبرامجها، أو دعم طلابها. ووفقًا لهذا المنظور، فإن برنامج الوقف التعليمي يعد أحد مصادر تمويل التعليم التي يمكن أن تسهم في تحقيق أهداف التعليم ورفع مستوى مخرجاته، وهو في ذات الوقت يشكل آلية مؤسسية تمكن مؤسسات المجتمع وأفراده من أن يسهموا في تطور هذه المؤسسات التعليمية وازدهارها، وبناء العلوم وتقدمها.

ومن بين الآليات الأخرى التي تستطيع الجامعة من خلالها زيادة مواردها المالية؛ إنشاء المساكن الطلابية، وتأجير بعض المنشآت والمرافق الجامعية، وتقديم وجبات غذائية ذات جودة عالية، وبأسعار مناسبة، لمنسوبي الجامعة، وأحيانًا لمن هم من غير منسوبي الجامعة، والسماح بإجراء بعض الأنشطة الثقافية والإجتماعية في مرافقها، واستثمار بعض المساحات والأماكن بها في الترويج الإعلاني للمؤسسات والشركات. كل ذلك مقابل رسوم مالية تزيد من دخل الجامعة، وبما لا يمس، في ذات الوقت، بالأهداف والمبادئ العامة والأعراف الأكاديمية لها.

الخلاصة..

تأسيسًا على ما تقدم، يمكن أن ينظر إلى مفهوم الجامعة المُنتِجة على أنه أنموذج مرن؛ يحقق التوازن بين الوظائف الأساس للجامعة؛ باعتباره جزءًا لا يتجزأ من آليات السوق، ومؤسسة لإنتاج وتسويق المعارف والبرامج والأبحاث المرتبطة به، وعقد شراكة مجتمعية مع مؤسسات المجتمع الأخرى. ومن هذا المنظور، فإن مفهوم الجامعة المُنتِجة لا يتعارض مع المفهوم العام للجامعة، بل يتعداه إلى ممارسة الأنشطة الإنتاجية المناسبة للعملية التعليمية، الشئ الذي يحقق لها مردودًا ماليًا إضافيًا.

لقد كان هذا الجزء من المقال مدخلًا تمهيديًا لمفهوم “الجامعة المُنتِجة”، وأهمية تبني هذه الفلسفة في تعزيز منظومة التعليم الجامعي. ويستعرض الجزء الثاني منه بمشيئة الله آليات التحول إلى فكرة “الجامعة المُنتِجة”، كما يسلط الضوء على مضمون مفهوم “الجامعة المُنتِجة” في ضوء رؤية “عمان 2040″، والإستراتيجية الوطنية للتعليم 2040.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *