اخبار عمان

“فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى”

 

سالم بن محمد العبري

حين توفي الأخ محمد بن الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن حمد بن محسن العبري، قرَّر إخوته دفنه بمقبرة السيب وإقامة العزاء في المجلس الملحق بجامع السيد طارق بن تيمور عليه رحمة الله وحين انتهينا من الصلاة عليه بمسجد المقبرة وخرجت الجنازة، لم نكد نتعرف على أحذيتنا إلّا وعربة المقبرة قد أسرعت إلى حيث يوارى الثرى، فقلت لمرافقي علي بن عامر وحميد بن محمد وخميس بن سعيد الهطاطلة نسبًا: إذن لا شغل لنا؛ فأولاده وإخوته هم من سينزلوه إلى قبره، فهيا بنا إلى بهلا لتعزية الدكتور بدر العبري في أبيه.

وشققنا طريقنا لنصل مع أذان الظهر فإذا بمجلس بهلا العام يكاد يخلو من الواقفين فالصلاة تُشد والغداء بعدها يُترقب؛ لكن الدكتور بدر العبري مازال موجودا فسلمنا عليه وعرّفنا على أشقائه وبعض من أصهارهم الذين استناروا من نوره فإذا بهم في مواقع علمية مرموقة بجامعة السلطان قابوس وغيرها من هيئات التنوير العمانية التي نفتخر بها.

إلا أنَّ من طبيعتنا نريد أن نخفف ونتخفف مستغلين وقت الصلاة والغداء ففوجئنا بنفر من البحرين زملاء ومعارف أتوا للتعزية، فقلنا: فلنتريث وقد نأخذهم معنا للغداء؛ لكن الدكتور بدر العبري أصرَّ أن يبقوا في ضيافته.

ثم عدنا لمسقط قبيل الغروب وفي اليوم التالي خرجنا إلى الحراد للتعزية في الإعلامي قيس البوسعيدي عليه رحمة الله فوصلنا مجلس العزاء عند العاشرة، فلمّا أُذن لصلاة الظهر خرجنا إلى المسجد لأداء الصلاة في جماعة وكان موقع (سترة الإمام) خالٍ، فجلست عن يساره وجلس عن يمينه أخ كريم يبدو في مثل عمري فأشار لي أن أتقدم لموضع الوسط من (سترة الإمام)؛ فقلت له: أنت مقيم بالمسجد ومن أهل المنطقة ونحن من الزائرين عملا بقاعدة (لا يُؤَمُ رجلٌ في بيته) وبعد إلحاحي عليه توسّط الرجل موضع سترة الإمام، فلما رفع الإمام تكبيرة الإحرام رأيته (يكفت) غير (مُرسلٍ يديه)، فهممتُ أن لا أُرسِل يدي احترامَا له؛ لكن المتزلفين والمتفيقهين سيجعلون من هذا الموقف قصةً تتداولها الألسن دون وعي للقصد والحُجّة. وفي صلاة العصر تكرر الموقف نفسه؛ لكن الأخ الكريم ما إن ألححت عليه كما حدث في صلاة الظهر إلا ابتعد وتنحّي بعد ثلاثة أشخاص، عندها أخذت المكان الذي أكرمنا به تواضعًا وفهمًا عميقًا للقيم والسلوك بالصلاة مع من قد يختلفون معنا بالمدارس الفقهية.

فلما انتهينا من الصلاة وسلم الإمام وصلى على النبي المختار وجهر بدعاء ختم الصلاة بادرتهم بالحديث مُثنيًا على الأخ الكريم الذي أحس أنَّ جُلّ المصلين في المسجد من المدرسة الإباضية والبعض القليل من مدرسة فقهية أخرى لها كل الاحترام؛ فهو يتبع علمًا من علماء الأمة الإسلامية له نفس الوزن والاعتراف والاجتهاد. فقلت أنا أقدِّر رأيكم ومبادرتكم لكننا نحن مارون وأنت كما أظن من المجاورين للجامع والقائمين به فأنت أولى أن تتقدم، وأنا وددت أن أشاركك (هيئة الصلاة) احترامًا وإجلالًا فعدلت مخافة سوء الظن من البعض، ورغبت أن لا أتركك غير مرسل يديك وحدك؛ فلقد تعلمت هذا من (الشيخ عبد العظيم) أحد المشايخ الأزهريين، الذي أرسلته وزارة الأوقاف واعظًا بولاية الحمراء حين كنت عضوًا بمجلس الشورى وكنت معظم الأيام أقضيها بالولاية وذات يوم صلى الشيخ الأزهريّ معنا بمسجد (المنيزف) فلاحظته يرسل يديه ولا يكفت ولعلمي أن غالبية مصر على المذهب الحنفيّ، فسألته: لماذا لم تكفت يديك؟ فأجابني بسلوك العلماء العارفين والمجتهدين الذين يضعون كل المدارس الفقهية في منزلة واحدة من الاحترام والاعتبار وجلال مؤسسيها وعلمائها قائلا: “بعض المراجع الفقهية توصينا بمتابعة ومسايرة الكثرة أو أهل البلد في (صفتهم وهيئتهم) عند الصلاة احترامًا وإجلالًا لكل ذي علم واجتهاد”، وهو قول على الأرجح قال به الشافعية.

ومن هذه الزاوية الصحفية أدعو لتبني مثل هذه اخبار عمان العصرية وحري بنا نحن العمانيين أن تسود بيننا مثل هذه الروح؛ فكل ذي رأي ومدرسة واجتهاد قرأ النصوص واستنبط واستقرأ القواعد الفقهية له التقدير والتبجيل تحقيقا لقوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. وإعجاب المرء بنفسه مُبطل لعمله كالرياء والشرك، ومهلِك له من حيث لا يدري، وجاء في “شُعب الإيمان” للبيهقي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ خَشْيَةُ اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ“.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *