اخبار عمان

أم ليست كالأمهات | جريدة الرؤية العمانية

 

حمد الحضرمي **

 

الأم اختارها الله تعالى لتحمل مسؤوليات كبيرة تحدد مسار التاريخ البشري، كونها هي التي تحمل الجنين في أحشائها وتغذيه من دمها وتدفئه في رحمها، وهي التي تلد في مشقة، وهي التي ترضع لمدة حولين، وهي التي تعتني بطفلها في نظافته وطعامه وتربيته، وتسهر الأيام والليالي وتقاسي ولكنها صابرة، فعطاؤها ليس له حدود، ووفاؤها منقطع النظير، وتضحياتها كثيرة مستمرة للنهاية، فأصبح احترامها وتقديرها علينا واجبًا، ولا ننسى ونحن صغار إحسانها إلينا ونحن في أشد لحظات الضعف والعجز، وكانت تخاف علينا من نسمات الهواء أن تؤذينا.

وقد أمر الله الإنسان ببر والديه والعطف عليهما، خصوصًا الأم باعتبارها الشخص الأضعف الذي يحمل العبء الأكبر، فحملها الجنين في بطنها، وهي في كل يوم تزداد ضعفًا على ضعف وشدة على شدة، وتنتقل في أطوار التعب والضعف من الحمل إلى الطّلق ثم الولادة وهذه مشقة كبيرة، فهي تُكابد شتى صنوف العذاب والمشاق حينما تكون حاملًا كالغثيان والوحام والثقل، وكذلك من آلام الطْلق، فحملت طفلها في بطنها بمشقة، ووضعته بمشقة، ويُعبر القرآن الكريم عن ذلك بقول الله تعالى في الآية 15 من سورة الأحقاف “حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا” وفي الآية 14 من سورة لقمان “حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ”، لكن الأم الصالحة تكون سعيدة بهذه المشقة والعذاب، وتتحمل الآلام بصدر رحب حبًا لهذا الجنين، وشوقًا لرؤية طفلها الذي انتظرته تسعة أشهر.

إنَّ الأم هي اللبنة الأساسية في تأسيس الأسرة؛ فهي المُنجبة للأولاد والأمينة على الذرية والمربية والمعلمة والمشرفة على تسيير شؤون حياتهم في الدنيا، وعنها يرثون كثيرًا من الصفات والإيجابيات، وفي أحضان الأم يتعرفون على أمور دينهم، ويتعودون على السلوك السليم والمبادئ والقيم والأسس والأخلاق الحميدة للتعامل مع الآخرين بإنسانية واحترام وتقدير، وصدق الشاعر إذ يقول:

الأم مدرسة إذا أعددتها // أعددت شعبًا طيب الأعراق

إنَّ الأم الطيبة الكريمة تحرص على إعطاء طفلها حقه في الرضاعة الطبيعية، لأنها تعلم أنَّ حليب الأم يُعتبر أفضل غذاء للطفل من حيث الطهارة والتعقيم، ولما يتمتع به من مُميزات تجعل الطفل مناعته قوية شاملة ضد الأمراض، وحليب الأم وسيلة تربوية، لأنَّ قرب الأم لطفلها والتصاقه بها أثناء الرضاعة يغرس في الطفل الحب والحنان والأمان، كما تغرس الأم في أبنائها الصغار القيم والأخلاق الحميدة، وتؤدبهم بآداب الإسلام ويعرفون منها الحلال والحرام، وتعلمهم على أداء الصلاة والصيام والإحسان إلى الجار والفقير والمسكين، إن الأم الصالحة تهتم وتعتني بصحة أولادها، وتبعدهم عن الأخلاق المذمومة كالغضب والعصبية، وتعامل أولادها مُعاملة طيبة وتقدم لهم الاحترام والتقدير دون قسوة ولا تستخدم الضرب ولا الشتم ولا التحقير ولا السخرية، كما أنها عادلة بين أبنائها وبناتها في المعاملة والرعاية والاهتمام والمحبة، وتصغي إلى أولادها وتتحدث إليهم وتتحاور معهم بشكل دائم، وتعلمهم تحمل المسؤولية والاعتماد على النفس، وقد نجحت في إبعاد مخاطر الموبايل والآيباد والبلاك بيري والآيفون وألعاب الليزر عن أولادها، لأن لهذه الأجهزة مضار ومخاطر كبيرة خاصة على الأطفال، نعم إنها أم ولكن ليست كبقية الأمهات.   

إن الطفل يأتي للحياة صفحة بيضاء، فيتأثر بالأقرب إليه والأكثر التصاقًا به، فتكون الأم هي المؤثر الأكبر في سلوك الطفل في سنواته الأولى، فيلاحظ ويتأمل في تصرفات أمه وحركاتها، ثم يبدأ بمُحاكاة أمه وتقليدها، وتبقى الأم في أعماق نفس الطفل، وتستطيع الأم الفاضلة أن تؤدي مهمة عشرات الأساتذة والمربين، وقد استطاعت الأمهات المثاليات تربية أبنائهن تربية صالحة، فخرجت لنا عددا من أعلام الفقه والقضاء والأدب والعلم والحكمة والشعر، ولولا تربية أمهات هؤلاء لهم لما احتلوا مكانتهم الكبيرة بين العُلماء الخالدين.

وخير مثال على ذلك نبي الله عيسى ابن مريم، فلم يكن له أب، وانفردت أمه برعايته وتربيته، وجاء ذكرهما بالتعظيم والتقديس في القرآن الكريم؛ بل خُصِّصت سورة باسمها: سورة مريم؛ فالأم تظل هي المدرسة التي تربي الجيل وتنشئه، وستظل هي المصنع الحقيقي للأبطال والعلماء والعظماء عبر التاريخ. وإننا نجد الكثير من النصوص الدينية التي تؤكد مكانة الأم، وحقها الكبير على الأولاد، كونها تعبت وضحت أثناء الحمل والولادة والحضانة، فجهود الأم لا تقاس بأي جهود أخرى، لأنَّ المهام والمسؤوليات والواجبات التي تقوم بها الأم تعد أهم وأخطر وظيفة في الحياة. إنها أم ولكنها ليست كباقي الأمهات، الأم هي الحب الصادق الحقيقي، والحنان والعطف والود والوئام، وتحمل المشاق والصبر على العناء، والأم هي الوفاء والعطاء والتضحيات بلا مقابل، بل تقدم كل ذلك بكل سرور ورضا وسعادة.

الآن تبلغ هذه الأم خمس وثمانين سنة، تزوجت وعمرها خمس عشر سنة، أنجبت سبعة أبناء وأربع بنات، تزوج الأبناء والبنات ورزقوا بالذريات الصالحة، وبعد ستين سنة من زواجها رحل عنها زوجها الطيب الكريم الذي كانت له خير زوجة؛ حيث كانت تعمل ليل نهار في البيت والمزرعة، تحتطب بنفسها وتجلب الماء وتطبخ على الحطب دون غاز ولا كهرباء، وليس لديها خادمة تُساعدها على أعمال البيت وتربية الأولاد، ولم تتذمر يومًا ولم تتوقف عن العمل كانت صحيحة أو مريضة، تعمل بكل طاقتها بلا كلل أو ملل، وبكل إخلاص وتفانٍ وعطاء ووفاء وتضحيات ليس لها مثيل في زماننا. ورغم كبر سنها إلا أنها محافظة على صلاتها وصيامها ولا تترك فروضها والسنن، وتحب أولادها وبناتها وأحفادها ولا تفرق بينهم أبداً في الحب والمعاملة، وقد حافظت بعد وفاة زوجها على أسرتها من الشتات والفرقة، فجمعتهم على المحبة والألفة والود والوئام والتقدير والاحترام فيما بينهم، وإلى وقتنا الحالي وهي ترعى وتهتم بكل شيء لتكون أسرتها في أحسن الأحوال.

بعد كل هذه الجهود المبذولة من الأم لسنوات طوال، وتعبها وسهرها الليالى وتقديمها التضحيات على حساب راحتها وصحتها، فكيف يكون الجزاء، وكيف نجازيها على حُسن تربيتها وخدماتها الجليلة التي قدمتها طوال سنوات حياتها.

إنَّ الأم فضلها علينا كبير وعطاؤها ليس له مثيل، فيتوجب على كل إنسان أن يعتني بأمه ويبرها ويرعاها؛ لأنها مصدر الرحمة ومنبع الحنان وأصل التضحية، وقد امتلأت كتب السير والتاريخ بأمثلة لأبناء صالحين، كان أحدهم يغسل رأس أمه، وآخر يغسل رجليها، وآخر يدخلها الخلاء، وآخر يحملها على كتفيه لأداء مناسك العمرة وفريضة الحج، فعلى كل إنسان لديه أم على قيد الحياة أن يستثمر وجودها، ويكون لها مُخلصًا وفيًا، ويخدمها ويرعاها ويدعو لها بالصحة والعافية والسلامة من كل شر، قبل أن يأتي يوم الفراق وترحل الأم عن الدنيا، وستعلم بعدها أيها الإنسان أن الأم كانت نور الحياة، وبوفاتها أظلمت الدنيا بأسرها، وكثرت الهموم والأحزان عليك، لأنك لن تجد قلبًا كبيرًا كقلب الأم، يحن ويعطف عليك ويرحمك ويدعو إليك، ويتمنى ويرجو لك البقاء والسعادة والهناء، إنَّ الأم نعيم الدنيا، وبرحيلها تصبح الدنيا شقاء وضيقاً وكآبة وتعاسة وحزناً أليماً ليس له دواء.

** محامٍ ومستشار قانوني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *