اخبار تركيا

محمد عاكف أرصوي “الاختراق”.. كيف تسقط الأوطان؟

علي أبو هميلة الجزيرة مباشر

كلمات يسيرة قد تغيّر مجرى الحياة للإنسان، عندما تكون هذه الكلمات في أوقات محن الوطن، فإنها تؤدي إلى كوارث قد لا يتصور قائلها أو متلقيها أثرها إلا عندما يفيق من سكرتها، والشعراء سحرة منهم الذي يكبح سحره أو كلماته المسحورة، ومنهم من يترك لسحره التمدد ليصبح الشيطان قائده، وليس الشعراء فقط، بل أصحاب الكلمة جميعًا، حتى ولو كان إنسانًا بسيطًا يكتب أو يتحدث مع آخر حديثًا عابرًا، وقد تكاثرت الكلمات كثيرًا في عالمنا، وتناثرت الأحاديث، فلا ندري صدقها من الكذب فيها، لا نجد الوقت لنبحث عن الحقيقة فأصبحنا نتلقى المعلومات والأحداث لا ندري من وراها؟ ولا مدى صدقيتها؟

الكلمة وتأثيرها هو المحور السائد في المسلسل التاريخي التركي (عاكف) الذي أنتجته قناة التليفزيون التركي عام 2021، وأذيع العام الماضي، المسلسل يتناول عشر سنوات هي السنوات العشر الأخيرة في عمر الدولة العثمانية، التي تخللتها ثلاثة حروب هي حرب البلقان الأولى 1912، حرب البلقان الثانية 1913، والحرب العالمية الأولى التي بدأت في 1914، وانتهت بعد أربع سنوات باحتلال إسطنبول لمدة خمس سنوات، وتحررت بقيام الثورة التركية وقيام الجمهورية التركية ونهاية الخلافة العثمانية التي تم تفتيتها بنهاية الحرب العالمية الأولي في 1918.

عشر سنوات مهمة في حياة الخلافة العثمانية، وشاعرها الأشهر صاحب النشيد الوطني التركي الذي يستخدم حتى الآن، محمد عاكف أرصوي ابن بخاري الطبيب البيطري الذي ألّف أكثر من سبعة مؤلفات قيمة في الأدب التركي ورئيس تحرير مجلة الصراط المستقيم، الذي شارك في مقاومة دول البلقان بلغاريا، اليونان، صربيا، الجبل الأسود في الحربين، ومقاومة الحلفاء في الحرب العالمية الأولى حتى تحرير إسطنبول 1923.

يبدأ العمل الدرامي في حرب البلقان على الجبهة بينما ممتاز ابن عاكف بالتبني، ومحرر في مجلته في سبيل الرشاد يقرأ قصيدة للشاعر التركي توفيق فكرت، شاعر معاصر لعاكف أرصوي ولد قبله بست سنوات عام 1867، بينما ولد أرصوي 1873، قصيدة تاريخ قديم، وهي قصيدة تدعو إلى ترك القديم الإسلامي الاتجاه نحو المدنية الغربية، وتدعو إلى ترك الحرب والتصالح مع العدو، بينما يقرأ ممتاز القصيدة يبدأ هجوم البلغار في حرب البلقان، يهرب ممتاز من الجبهة ويصاب أثناء هروبه في قدمه وتسبب الإصابة إعاقة بقدمه.

على التوازي من عودة ممتاز ابن صديق عاكف الذي تبناه وشقيقتيه بعد وفاة والدهم صديقه الذي تعاهد له بتربية أطفاله، يعود هالوك بن توفيق فكرت صاحب القصيدة (تاريخ قديم) هالوك أرسله والده إلى إسكتلندا ليكون قائدًا عسكريًا قبل التحوّل في حياته، لكن هالوك تبهره حياة الإنجليز ويصل الأمر لتحوله إلى المسيحية، وهنا يتلاقاه ضابط المخابرات البريطاني فرو المتخفي في زي راهب مسيحي، ليبدأ معه عملية اختراق الشعب في تركيا تمهيدًا لاحتلال إسطنبول وتفتيت الدولة العثمانية.

بدأ الاختراق بقصيدة توفيق فكرت تاريخ قديم، ويبدأ ممتاز في إقناع الشباب في المدراس التركية بالتصالح مع الأعداء البلغار الذين احتلوا أدرنة 1912، حيث يلتقطه هالوك والجاسوس فرو، في الوقتنفسهالذي يكون فيه ممتاز يحكي قصته عبر مقالاتعدةينشرها بمساعدة هالوك وفرو، يقوم هالوك بإغراء الشباب بالهجرة إلى نيوزيلندا، وتجهيز قوارب للسفر، وتتسع دوائر المعارضين للحرب، في الوقتنفسهالمعارضين لشعر عاكف أرصويوكتاباتهالوطنية.

يبدأ فرو الجاسوس في استخدام السينما في عمل أفلام دعائية، ويستخدم فيها ممتاز الذي أقنعه بأن من أنقذ قدمه من البتر طبيب إنجليزي، ومدى رحمة الأطباء الذين لا يتأخرون عن إنقاذ حياة ضحايا الموت الذي يدعو إليه الإسلام وسبيل الرشاد مجلة عاكف أرصوي، ويستخدم فرو كون ممتاز كان مراسلًا لسبيل الرشاد في نشر أخبار كاذبة عن رحمة دول الحلفاء بالجنود المسلمين على عكس الألمان المتحالفين مع الدولة العثمانية الذين يعذبون الأسرى المسلمين من الدول التي تحتلها بريطانيا العظمى في ذلك الوقت.

يقاوم محمد عاكف ما يتم من أكاذيب، يذهب إلى ألمانيا ليرى كذب ادعاءات الأفلام الإنجليزية، ويحاول إنقاذ ابنه بالتبني من التزييف الذي يمرره له فرو، وفي الوقتنفسهيقاوم سقوط الدولة، يتم تأسيس جمعية الاتحاد والترقي، ويحاولون الوقوف ضد محاولات الاختراقكلها، يستخدمون أيضًا السينما في كشف الحقائق، ويواجهون الداعين إلى الصلح، وتسير الدراما في طريق الصراع بين نظرية الاستسلام للحضارة الغربية الذي يمثله فريق توفيق فكرت، فرو، هالوك، وممتاز، وفريق التمسك بالقيم الإسلامية، والحفاظ على الدولة العثمانية، وتجديدها، واستعادة قوتها التي بدأت تفقدها مع نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، بعد أربع قرون من الازدهار.

تبدأ حملة جديدة بين الشباب مع اتساع دائرة المؤيدين لممتاز، وخلفه فرو، بينما يبدأ توفيق فكرت في التردد، ويهاجر ابنه هالوك إلى أمريكا، كل هذا وإغراء الشباب التركي بالمدنية الغربية، والحريات، والاختلاط، وتحويل تركيا قطعة من أوروبا، مما يؤدي إلى ترحيب شديد من الأتراك بالاحتلال البريطاني الذي يحمل الحضارة والمدنية، وكل هذا يتم بينما الحرب العالمية مشتعلة، وتنتهي الحرب بهزيمة دول المحور الدولة العثمانية، والألمان والبلغار، والنمسا.

استخدم الإنجليز وسائل الدعايةكافةلتحطيم الجبهة الداخلية للشعب التركي، والدولة العثمانية، ويشير العمل الدرامي إلى الأكاذيب التي يتم استخدامها لتحقيق الاختراق، حيث يتم نشر أخبار كاذبة عن طريق الجرائد، إنتاج أفلام سينمائية مزيفة للحقيقة، نشر أحداث تاريخية غير حقيقية، وهكذا يتم تشويه التاريخ وتزييفه، ليصبح بعد ذلك الدخول إلى الدول واحتلالها يتم بترحيب الشعوب المحتلة.

قد أجاد المؤلف والمخرج تصوير هذه المشاهد حينما صور استقبال الشعب التركي لأسطول بريطانيا واحتلال إسطنبول بالأعلام والترحيب، بينما يقف محمد عاكف يشاهد شعبه وتلحق به زوجته، وأبناؤه ليقفوا في وجه الاحتلال.

العمل التاريخي عاكف عن بعض الأحداث التاريخية في حياة شاعر تركيا وأحد مفكريها محمد عاكف أرصوي ليس بالضرورة يكون مطابقًا للأحداث التاريخية، ولكنه عاكس لمجموعة من القيم والإشارات التي يرى أصحابه ضرورة الانتباه إليها دائمًا في حياة الشعوب، ولو تأملت العمل فإنك سترى تجارب معادة في استخدام الدعاية، وتزييف الوقائع والأحداث التاريخية لسحق الشعوب، واحتلالها، هكذا كان دائمًا اللعب على أوتار المدنية والحضارة.

عن الكاتب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *