اخبار عمان

خريف زنجبار: غيضٌ من فيض والدروس العشرية للسيد نوح

ناصر بن عبدالله الريامي *

اطلعت، بكل تقديرٍ واعتزاز، على الدروس العشرية التي استخلصها رئيس مجلس إدارة الجمعية التاريخية العمانية، أخي المكرم السيد نوح بن محمدبن أحمد البوسعيدي، أعزه الله ونصره، من كتاب (خريف زنجبار: غيضٌ منفيض)، للأستاذ الفاضل عبدالله بن علي المجيني.  وفي الوقت الذي أجدُني متفقًا معه في كثيرٍ مما تفضل به من دروس؛ أراني في موازاة ذلك مختلفًا معه في قليلٍ من تلك الدروس والعبر، التي أقدرها عاليًا، وأثمن كثيرًا الجهد المبذول في استخلاصها.  ولعل اختلاف الآراء ووجهات النظر هو سنة كونية، لا تفسد معها للود قضية.  فكل ينظر بمنظوره الخاص، ومن زاويته المختلفة عن الآخر.

ورد في الدرس الأول: “الركون للأوليجاركية وطبقة التجار هو من المسببات الرئيسية.  فمن هؤلاء ما همه البيع والشراء”، ثم أردف في الدرس نفسه مامضمونه: وعدم إلتفات هؤلاء التجار إلا لمصالحهم الاقتصادية الخاصة، دون النظر في ترسيخ أركان الحكم، وتعضيد أعمدة الدولة.

أرى من الأهمية بمكان، قبل التعليق على هذا الدرس، أن أعرف جمهور العامة بهذا المصطلح الشديد الخصوصية، “الأوليجاركية”.  هذا المصطلح، هو يوناني الأصل، يشير إلى شكلٍ من أشكال الحكم، وتحديدًا، “حكم الأقلية الممتازة”، التي تتجمع في أيديها المال والقوة والنفوذ؛ وأحيانًا القوة العسكرية.  ويطلق على الحكم بالـ”أوليجاركي” أيضًا، إذا سمح للتصويت السياسي لأعضاء حزب دون حزب؛ مما يعني بالنتيجة أن المناصب العامة، والحكم الفعلي في الدولة، ستنحصر على فئة محددة من الشعب، دونسواهم.  

ترتيبًا على ما تقدم، وبالبناء عليه، أستطيع القول، وبكل ثقة، أنه لم يكنلمضمون “حكم الأقلية الممتازة” وجود في زنجبار، في عهد نظام السلطنة؛ والعكس من ذلك هو الصحيح.  فعلى اعتبار أن زنجبار كانت محمية بريطانية منذ سنة 1890م؛ فالحكم، بكليته، كان في يدِ الإدارة البريطانية، لافي أيدي الأقلية العربية، كما يحلو للبعض القول؛ ولا حتى في أيدي التجار، كما ورد في الطرح الماثل؛ واستمر الوضع كذلك، إلى أن نالت زنجبار استقلالها في 10 ديسمبر 1963م، وتحول نظام الحكم في الدولة إلى سلطنةٍ دستورية، أي أن السلطان يسود ولا يحكم، كما هو الحال مع ملك بريطانيا، وبعض ملوك أوروبا الغربية؛ وتحولت قيادة الدولة (رئاسة مجلس الوزراء)، والمناصب العليا والإشرافية والتنفيذية إلى شعب زنجبار، دون النظر إلى الأصل العرقي.  وإذا كان لابد من إلصاق مصطلح الأوليجاركي بالوضع السياسي في زنجبار، فأستطيع القول أنه ان وجد فقط عقب الغزو التنجانيقي عليها، أي بعد يناير 1964م؛ حيث أضحى التعيين في المناصب العامة من حظ المؤيدين للنظام الجديد فقط، دون سواهم.  بل حتى نصيب الفرد من الأفدنة الثلاثة الزراعية، المصادرة من ملاكها الشرعيين، عُلق رهن الموقف السياسي، من تأييد أو معارضة للنظام الجديد.  ولقد وقفت على هذه الحقيقة، من واقع المقابلات الشخصية الكثيرة التي أجريتها في زنجبار.     

أما عن الدرس الثاني، المتعلق بمسألة “التراخي الأمني، والتهاون العسكري، والتخلي عن الصمعة، …”، ثم أردف صاحب الدروس قائلًا: “زنجبار كانت في سبات أمني تام، وكان هناك فشل في رصد تلك التحركات الشيطانية”.  أؤكد في هذا الصدد، أن التهديد الأمني كان قد رصد قبل الإستقلال، وهناك واقعات أمنية وثقتها في كتابي، تؤكد الرصد؛ إلا أن هذا الرصد كان عديم القيمة في ظل استمرار بقاء قيادة الأمن في أيدٍ أجنبية، لاتريد الخير للبلاد؛ بل وفي ظل أعمال الخيانة التي بدرت منهم، مثلما أوضحت في الكتاب تفصيلًا.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الأمر جُله يرجع إلى افتقار أعضاء الحكومة الشرعية، المنتخبة جماهيريًا، إلى النضج السياسي، والدهاء الفكري، المطلوبين لإدارة الدول؛ وهذا هو عين ما أكّده لي سليمان بن سعيد الخروصي، مساعد مفوض الشرطة في الحكومة المنكوبة.  عطفًا على ذلك، أقول: أنه من الخطأ أن نحكم على تصرفات الأمس، بعقلية اليوم .. والأعظم من ذلك، أن نحكم على تلك التصرفات بأبجديات أمن اليوم.  فما أسهل الانتقاد، كماقال لي شخصيًا وزير خارجية الحكومة المنكوبة، علي بن محسن البرواني، في المقابلات الكثيرة المطولة التي أجريتها معه.  

أتفق كليًا مع صاحب الدروس العشرية فيما أورده في الدرس الثالث، سيما بالنسبة لتقرب الحكومة الشرعية من الحليف العربي، الذي بنت عليه آمالًا واهيةً لحماية أمن واستقرار البلاد.  فعلًا، كان يتوجب على الحكومةالمنتخبة أن تعي أن لذلك الحليف العربي مصالح كثيرة مع أفريقيا جنوبالصحراء؛ وكان يتطلع إلى تحقيق دور كبير في مجال الوحدة الأفريقية؛ كماأنه كان يتطلع، في الوقت نفسه، إلى إقامة جامعة أفريقية، على غرار الجامعة العربية، لمواجهة التهديد الإسرائيلي؛ وأن هذا الحليف ما كان بحالٍ من الأحوال ليخاطر بمصالحه الأفريقية، لإنقاذ، أو على الأقل لتأييد حكومة وصمت خطأً بكونها حكومة عربية.     

أتفق كليا وما أورده المكرم في الدرس السابع، الخاص بأمومة عمان، والحضن الأحن على جميع المنكوبين في تلك الديار الإفريقية، من ذوي الأصول العمانية.  لعل أكبر دليل على ما تفضل به، أن الحكومة الرشيدة أطلقت عليهم، مصطلح (العائدين)، لا اللاجئين، كما أن التوجيهات السامية لمولانا السلطان المعظم، والتي صدرت في عام ١٩٩٩م، حظرت استخدام لفظة (الأقلية)، للإشارة إلى أي من أبناء شعب عمان، سواء في المحافل الخاصة أو العامة.

أما عن البصمة العمانية هناك، فأتفق معه في أنها ما تزال باقية، وواضحة لكل ذي عقل وفكر وإدراك، بفضل الله تعالى أولا؛ ثم بفضل توجه القيادة العُمانية الحكيمة، ونظرتها الاستراتيجية الثاقبة، ثم بجهود ذاتية من بعض العُمانيين، في محاولة منهم لانقاذ ما تبقى من ممتلكاتهم العقارية … ومع ذلك، فتلك البصمة في مسيس الحاجة إلى مزيد من الدعم الحكومي، في ظل وجود منافسة عربية خليجية تحديدًا، على تلك البقاع، تعمل بكل ما أوتيت من قدرة، لإخراج زنجبار من تحت العباءة العُمانية، إن جاز التعبير، وأقلها، محو تلك البصمة عن الوجود.

أخيرًا، أشكر رئيس مجلس إدارة الجمعية التاريخية العمانية، المكرم السيد نوح بن محمد بن أحمد البوسعيدي، على هذا الإثراء الفكري الجميل، الذي حرك قريحتي للمشاركة ببعض الأفكار حول الموضوع، تعميمًا للفائدة المرجوة.  والشكر موصول إلى أخي الأستاذ عبدالله بن علي المجيني، على روايته الجميلة هذه، المبنية على أحداث حقيقية وقعت لإحدى الأسر العُمانية المعروفة بالعلم والتقى، عقب إنقضاض الغوغائيين على الشرعية، والإستيلاء على كل مفاصل الدولة؛ وعن الضغوط النفسية التي واجهتها الأسرة من قبل النظام الجديد، كما هو الحال مع جملة من العُمانيين في تلك الفترة، وعصفت بهم إلى ركوب الصعب والذلول، هروبًا من رمضاء الإعتقالات والتنكيل والتعذيب؛ إلى أن وصلوا إلى الوطن الأم عُمان، حيث الأمن والأمان والإستقرار.

* مؤلف كتاب (زنجبار: شخصيات وأحداث)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *