اخر الاخبار

الخيال السياسي مقاومة –

لمى قنوت

يُتحفنا “البراغماتيون” والغارقون في امتيازاتهم ومنتهزي الفرص التي تتيحها لهم التسويات الرسمية الجائرة مع أنظمة القهر القامعة لتطلعات الشعوب، بأحكام تأخذ صبغة قطعية باستحالة اقتلاع وتفكيك أنظمة الاستبداد والاستغلال، وبعبثية ترديد هتاف “الشعب يريد إسقاط النظام”، كأحد أكثر الشعارات ثورية خلال موجتي ثورات الربيع العربي، وباستعلاء معرفي يفندون ويعددون متانة روابط شبكات القمع المحلية والإقليمية والدولية التي تدعم تلك الأنظمة- العصابة، ويتفننون في بث الإحباط بعقول المترددين والخائفين من التغيير وما يُصطلح على تسميتهم بـ”حزب الكنبة”، وكأن الحراكات الثورية غافلة وساذجة وغير مدركة لجذرية شبكات القمع والإذلال.

ينطلق الشعار الذي تغرده الشعوب، “الشعب يريد إسقاط النظام”، ضد هياكل القمع، وضد من يتآمر على حراكاتها، ويتهاوش على مغانمها، من حدة تسيسه، وجذريته، وعظمة أحلامه المستمدة من تجارب الشعوب الحية في دحر الاحتلالات ومقاومة السياسات “النيوليبرالية” والاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها والاسترداد الشعبي للسيطرة على الموارد، ومحاسبة المجرمين والفاسدين فيها، وإعلاء حقوق عمالها وعاملاتها بتنوعاتهن، وضد أدلجة وتشريع العنف المناهض للحريات الفردية والجماعية، وضد تكميم الأفواه.

من حق الحراكات القاعدية الثورية أن تختار أدواتها وترسم خططها وتخوض تجاربها وتستلهم دروسها وتغير تكتيكاتها وتستنهض قواها وتبني أحزابها ونقاباتها وشبكاتها المقاومة وهياكلها البديلة ضد أنظمة القمع والطغيان.

يشحذ الخيال السياسي للأفراد والشعوب، التي ترفع شعار تفكيك وإسقاط الأنظمة الاستعمارية والشمولية والرأسمالية والاستبدادية الأبوية، استراتيجية أنماط المقاومات القاعدية المتعددة الطويلة الأمد، والتي تشمل نظام الحكم، والاقتصاد السياسي، والعدالة البيئية، والعدالة الاجتماعية، والعدالة الجندرية، وامتلاك أدوات الإنتاج، والأمن القائم على حماية الأفراد من العنصرية والتمييز والعنف، والعدالة التحولية، وبناء المدن والشوارع وفق احتياجات ساكنيها ومتطلباتهم، وتشجيع المبادرات القاعدية على التضامن الاجتماعي والتعاون المتبادل، والانحياز غير المشروط لأصوات المهمشين والناجين والمضطهدين واللاجئين والمفقرين، رجالًا ونساء بتنوعاتهن، لفهم ومعالجة سياقات جذور العنف والتمييز المفضي للعنف والقضاء عليه.

يبرز التنظيم القاعدي كواحد من الأدوات الثورية الأكثر نجاعة، والقائم على فهم وتحليل تشاركي أفقي، يترابط ويتقاطع ويمد جسور التضامن مع جميع أجندات التحرر، دون مفاضلة وهرمية للنضالات، فهذه الأنظمة القمعية تتغذى على العنف وعلى كل أشكال الاضطهادات، وتعيش على ضفافها هياكل مؤسساتية تتغذى على استدامة النزاعات واستنقاع الحلول وتغول الفساد وانعدام الرقابة وتهشم مؤسسات الدولة، وتنتعش في تحول الأفراد والجماعات من منتجين إلى متلقين للمساعدات، ولا تقل أهمية مقاومة نظم القمع عن مناهضة أذيالها، حتى لو رفعت شعارات براقة.

إن التضامن وتكامل الأدوار بين المنفيين طوعًا أو قسرًا خارج البلاد وبين الحركات الثورية القاعدية لا يكون بالاستعلاء المعرفي والاستيلاء على النضالات والاستقواء بشبكات النفوذ الدولية وموظفي سفاراتها والرهان عليهم وعلى تدخلهم، لأنها، وبكل بساطة، أثبتت فشلها وأدت إلى تقويض الحراكات والثورات كمقدمة لوأدها، وعَومَت حلولًا انهزامية ومرتزقة وانتهازيين غير مستقلين تابعين ومرتهنين لأجندات الدول ومصالحها.

العقول الشامتة ومحاكم تفتيش النيات التي تُصدر أحكامًا قطعية لا يمكنها مساعدة الحراكات القاعدية والحوار مع ثوارها وثائراتها لرفدها ودعمها والتضامن معها والبناء عليها لمراكمة النضالات والتعلم منها، وإذا لم يثمر النضال في مرحلة ما فلا بديل إلا بمزيد من النضالات.

إن أحد أوجه استدامة هياكل وبنى القمع هي تلميع وجهها والانضواء تحت جناحها، فناهيك بضحالة هذه الخيارات وقصر نظرها وانتهازيتها ونفعيتها في مراكمة الامتيازات الشخصية، فإنها لا محالة، ستكون في وقت ما إحدى ضحايا منظومة القمع والاستبداد. لا شك أن أجمل الحيوات، وربما أقساها، وأكثرها شغفًا هي في الخيارات الحرة المتمردة على هياكل القمع والملتصقة بقضايا التحرر، وأجمل الخيارات هي الخيارات الثورية الجذرية التي تجعل من الخيال السياسي آلية مقاومة يومية مستدامة ضد بنيان الطغيان والاضطهاد.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *