اخبار عمان

شذرات من الشعر الخالد.. إبداع من الشرق

 

 

د. سليمان بن خليفة المعمري             

تشكل بعض النماذج الأدبية والفنية ما يعرف بـ”الأيقونة” أو التحفة الفنية التي تتسم بنوع من الوهج والتألق فتبقى على الدوام تشدنا وتأسرنا بجمالها الأخّاذ فتغدو عصية على النسيان ونظل نردد مع الشاعر:

أَعِدْ ذِكْرَ نعمانٍ لَنَا إنَّ ذِكْرَهُ…

هُوَ المِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يتضوُّعُ

وهكذا تعيش تلك التحف النادرة والدرر الثمينة راسخة ومحفورة في المخيلة والوجدان ما تعاقبت الأجيال، تذكرنا بأيام الأنس والصفاء والنقاء الإنساني النبيل، ولطالما رجعنا إليها لتزودنا بجرعات من الحنين، وكما تعلقنا وجدانيا وروحيا بتلك النماذج الإبداعية المشرقة تعلقنا كذلك بالقامات الكبيرة التي أبدعت وأفرزت ذلك الرحيق العذب من الأدب والفن والإبداع، فكم أطربتنا ” الأطلال” الرائعة المشحونة بالحب المنقوعة بالجمال للشاعر الطبيب المصري الجميل إبراهيم ناجي والتي لا تقل عنها جمالا وأنسا تلك الحنجرة الذهبية التي غنتها كوكب الشرق أم كلثوم التي نقتطف منها هذه الأبيات:

لَسْتُ أَنْسَاكِ وَقَدْ أَغْرَيْتِني…

بِالذُّرَى الشُّمِّ فَأَدْمَنْتُ الطُّمُوحْ

أَنْتِ رُوحٌ في سَمَائي…

وَأنَالَكِ أَعْلُو فَكَأَنّي مَحْضُ رُوحْ

يَا لَهَا مِنْ قِمَمٍ كُنَّا بِهَا…

نَتَلاَقَى وَبِسِرَّيْنَا نَبُوحْ

وهناك في تونس الخضراء، يؤنسنا أبو القاسم الشابي بتحفته الشعرية النادرة، التي أودعها عصارة شعوره وإحساسه المرهف، وأهدى الشعوب المقهورة نشيد الحرية المنشودة فنسمعه يقول:

إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ…

فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ

ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي…

ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ

ومن أم الدنيا يطل علينا ملك البيان ودكتاتور اللغة أمير الشعر والفصاحة أحمد شوقي ليشنف آذاننا ببردته الرائعة:

ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ…

أحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ

رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَداً…

يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ

ويبدع في الوصف ودقة التصوير لعروس المصائف “زحلة”:

يا جارة الوادي طربت وعادني…

ما زادني شوقا إلى مرآك

فقطعت ليلي غارقا نشوان في…

ما يشبه الأحلام من ذكراك

مثّلت في الذكرى هواك وفي الكرى…

لمّا سموت به وصنتُ هواك

ولكم على الذكرى لقلبي عبرةٌ…

والذكريات صدى السنين الحاكي

وتبقى مصر العزيزة مهد كل إبداع وتألق يعانق أهراماتها الشامخة ففيها حافظ إبراهيم، وأبو شادي، وعبدالمعطي حجازي وغيرهم، ولنا في ضيعة لبنان ما تقر به النفوس من عيون الشعر إذ تستدعي الذاكرة شاعرها الجميل إيليا أبو ماضي لينفض عنا هواجس الكآبة والتشاؤم ويدثرنا بالأمل والتفاؤل في بدعيته” المساء” فنردد معه:

لِتَكُن حَياتُكِ كُلُّها أَمَلاً جَميلاً طَيِّبا

ولتملأ الأَحلامُ نَفسَكِ في الكُهولَةِ وَالصِّبى

مِثلُ الكَواكِبِ في السَماءِ وَكَالأَزاهِرِ في الرُبى

ويحلو بنا التطواف لنحط الرحال في بلاد الرافدين مع رائد الشعر الحر بدر شاكر السياب ليقرضنا قصيدته الحزينة” المطر” التي للأسف عكست أقدار العديد من البلدان العربية من الحزن والغربة والمعاناة:

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ

أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر

ولن نذهب بعيدا إذ نطل على” أبو فرات” ذلكم الشاعر الفحل الكبير” محمد مهدي الجواهري الذي عاش حوالي قرنٍ من الزمان كابد خلاله العناء والغربة والنفي والتطواف بعيدا عن موطنه ومهوى فؤاده الذي طالما حياه وتغنى بحبه وبثه شجونه وشكواه:

حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني

يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ

حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به

لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين

ومن الشام، شامة الدنيا وبهجتها، نتذكر عمر أبو ريشة في شعره الجزل الرقيق الشجي الأنيق إذ ينثر علينا من درره:

أما الصِّبا فلقد مرّت لياليهِ

فَابكيهِ يا عَفَّةَ الجلبابِ فابكيهِ

ملكتِ قلبكِ عن روضِ الهوى زمناً

واليومَ روضُ الهوى غِيضتْ سواقيهِ

وفي بلاد الجبارين فلسطين ومن قلعة الصمود الفلسطيني نابلس تطل علينا الجميلة” فدوى طوقان” لتقطف لنا من مروجها وشذى الزهور وأحضان الطبيعة الفاتنة في رائعتها” مع المروج”:

هذي فتاتك يا مروج، فهل عرفت صدى خطاها

عادت اليك مع الربيع الحلو يا مثوى صباها

والواقع أن هناك الكثير من شعراء العربية في قديم الزمان وحديثه ممن يتوشحون أوسمة الثقافة وتيجان الأدب لا يمكن ذكرهم في هذا التطواف الخاطف، ولعلنا هنا طرقنا بعضا من شعراء العهد القريب، وإن أنسى فلا أنسى قامات شعرية عالية من أمثال قباني والأخطل الصغير ومحمود درويش ومعروف الرصافي ونازك الملائكة، وشعراء بلدي الحبيب سلطنة عمان فهي موئل الشعراء الفطاحل والأدباء الأفاضل فهنا البهلاني والخليلي وغيرهم كثير.

وختامًا آمل أن تستفز هذه الشذرات الجميلة والتطواف الخاطف أحدهم فيلتمس الطريق نحو النبل ومعالي الأمور فيخرج لنا من ثمار الأدب اليانعة مثل ما أخرجوا فيضيف للحياة والجمال والعذوبة في زمان اشتقنا فيه لهاتيك الكنوز النادرة، وإلا فإنه ليقصر المقام عن الإحاطة بأولئك النوابغ الأعلام ف” بضاعتنا مزجاة” وباعنا قصير وقصير جدا، ولككنا سنظل ما حيينا نمجد تلك الشواهد الخالدة، وستبقى غراسهم عصية على الذبول والاضمحلال وسيبقون أمثولة المجد والفخر والعز للأجيال، وليعذرنا في هذه الحالة شاعرنا الجميل صاحب الأطلالالتي افتتحنا بها هذا المقال عن اعتماد وصيته الرائعة وإن كنا نحتاجها بشدة في مواضع أخرى إذ يقول:

أَيُّهَا الساهر تَغْفو

تَذْكُرُ العَهْدَ وَتَصْحو

وَإِذا مَا التَأَمَ جُرْحٌ

جَدَّ بِالتِذْكَارِ جُرْحُ

فَتَعَلَّمْ كَيْفَ تَنْسى

وَتَعَلَّمْ كَيْفَ تَمْحو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *