اخبار عمان

فلسفة التسامح | جريدة الرؤية العمانية

 

 

حمد الحضرمي

التسامح خُلق الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمصلحين في الأمم على مر العصور؛ فهو الطريق المُوصِل للهدف المنشود الذي من أجله رُسِلوا به ويدعون إليه. والتسامح ينبذ الفرقة والخلافات والصراعات بين أفراد الأسرة والمجتمع، لأنه يدعو للمحبة والإلفة والود والوئام والإخاء والعدل والتراحم بين الناس.

وهو قيمة عظيمة وأحد المبادئ الإنسانية التي حوَّلها الإسلام إلى واقع يتعامل به المسلم في حياته اليومية العملية، بنسيان الماضي المؤلم بكامل حيثياته، والصفح عمَّن آذاه رغم قدرته عليه، وهو نابع من قوة إيمان ورغبة صادقة في طيب العيش والمقام في الآخرة، فهمته كانت عالية، لأن غايته الجنة.

إنَّ التسامح والعفو والصفح أمر رباني وواجب ديني، دلَّت عليه آيات القرآن الكريم المتعددة، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو من صفات المتقين، قال تعالى: “وأن تعفوا أقرب للتقوى” (البقرة:237) والله سبحانه يأمرنا بالعفو والصفح: “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين” (الأعراف: 199)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اعفُ عمن ظلمك، وصل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك”؛ فالتسامح مبدأ يتوجَّب علينا جميعًا ترسيخه في الأسر والمجتمعات لما له من أهمية بالغة في الحياة البشرية، ولتفادي الصراعات والنزاعات التي تحدث بين الناس وتسبب القطيعة والأحقاد والبغضاء والكراهية.

ونحن نعيش في أيام شهر شعبان، وهو من الأشهر التي ميزها الله عز وجل، لاقترابه من شهر القربات والطاعات شهر رمضان المبارك، ولشهر شعبان فضائل منها ترفع الأعمال فيه إلى الله تعالى، فعن أسامة بن زيد قلت يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: “ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحِب أن يرفع عملي وأنا صائم”، وفي شهر شعبان تغفر الذنوب قال رسولنا الكريم في الحديث: “إن الله تعالى ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مشاحنٍ”.

وشهر شعبان كالمقدِّمة لشهر رمضان؛ حتى تتأهب النفوس وترتاض العبادة والطاعة، فيكون ذلك كالتمرين على صيام رمضان، وقال أحد الصالحين: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع.

وبعد ثلاث ليال، ستكون ليلة النصف من شعبان التي ترفع فيها الأعمال إلى رب العالمين، ومن المحزن أن تمر علينا هذه الليلة وبيننا وفي أسرنا ومجتمعاتنا الكثير من المتشاحنين، الذين وقعت بينهم خلافات ثم تطوَّرت فأصبحت فراقًا وقطيعة، مر على بعضها سنوات، وقد مات بعضهم وهم على خصام، وهي لَخُطورة كبيرة لأن الله لا يغفر للمتشاحنين حتى يتصالحا. فلماذا الشحناء والبغضاء والخصام والهجران بين الأخوة وأبناء العم والخال والأقارب والجيران والأصدقاء؟ إنه أمر دنيوي زائل لا قيمة له، فبادروا للصلح والتصالح والتسامح فيما بينكم قبل فوات الأوان، واعفوا عن بعضكم البعض وقدموا تنازلات، حتى تعيشوا في هدوء وحب وسلام.

وكما تعلمون فإن التسامح ليس ضعفًا ولا انكسارًا ولا هزيمة، بل هو قوة ومروءة وسعادة لا يعرفها إلا أصحاب النفوس المتسامحة، التي صدقت مع الله ثم مع ذاتها ثم مع الناس. والإنسان المتسامح نفسه نقية صافية، تترفع عن صغائر الأمور وتسمو بها إلى المعالي، ولا يرد صاحبها الإساءة بالإساءة، ولا يغضب ولا يأخذ بالثأر، بل نفسه تكون نقية وفي صفاء وود ووئام مع الجميع. فالتمسوا العذر للمخطئ والبحث عن أسباب هذا الخطأ الذي ربما لم يكن مقصودًا، وإذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه، فالتمس له العذر، فإن لم تجد له عذرًا، فقل: لعل له عذرًا لا أعلمه، وإذا سمعت كلمة تؤذيك، فطأطئ لها حتى تتخطاك.

إنَّ الإنسان المتسامح يغسل قلبه من شوائب الألم، ويحرر نفسه من قيود الحقد والحيرة والتفكير، ويظل أكثر قوة من الحاقد والمنتقم والكاره، لأنه يعيش في راحة بال وسكينة وطمأنينة، فنحن نسامح لأجل أن نحيا بقلب طاهر من درن الحقد، لنحيا بقلب نظيف من التعب واللوم والملامة، فقلوبنا أضعف من أن تحمل ثقل هذا الألم، فبالتسامح نعيش بقلوب سليمة، ونحب بلا شروط، وننام بلا قلق، هذه هي فلسفة التسامح، لأجل أن نحيا بسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *