اخر الاخبار

محمد الوليدي يكتب: “آل نهيان.. من القرصنة إلى الزندقة” (1) وطن

وطن لم يعلم الشيخ شخبوط بن سلطان حاكم أبو ظبي أن تلك المقابلة الصحفية التي أجراها مع الصحفية الأمريكية “واندا جابلونسكي” في فبراير عام ١٩٥٧، ستكون أول نقطة تحول في تاريخ ابو ظبي، فقد نقلتها من فقرها المدقع إلى ثراءها الفاجر.

كما كانت هذه المقابلة أيضا أول صدع خطير في حكمه الذي كان قد استمر تسعة وعشرين عاما حينها، حيث أزيح عن الحكم على يد الإنجليز بعون من شقيقه الشيخ زايد بعد ٩ سنوات من هذه المقابلة، أعدوا من خلالها “زايد” الطامع بالحكم منذ سنوات ليحل محله.

كان الشيخ “شخبوط” قد قال للصحفية “واندا جبلنوسكي” غاضبا، وهو ينظر لأسرة تيم هيليارد، مندوب شركة النفط البريطانية في أبو ظبي والذين كانوا برفقة الصحفية و”كل صحفي يزور قصر الحصن”: “لقد قام البريطانيون بالتنقيب عن النفط هنا وقالوا أنهم لم يجدوا شيئا، ثم بصق على الأرض، أنا أعرف أن الأمريكيين وجدوا النفط لآل سعود، ثم بصق مرة أخرى، كما أن الأمريكيين وجدوا النفط لآل خليفة في البحرين، وبصق مرة أخرى، وأنا أعرف ان الأمريكيين وجدوا النفط في الكويت لآل الصباح، وبصق مرة أخرى لذلك ألا يجب علي طرد البريطانيين وإحضار الأمريكيين بدلا منهم؟ ها؟”

لم تنشر الصحفية “واندا جابلونسكي” هذا النص ضمن المقابلة “إكراما” لأسرة “هيليارد” التي استضافتها ومكنتها من مقابلة الشيخ شخبوط، لكن هذا النص بلغ وزارة المستعمرات في لندن حتى قبل أن تصل المقابلة كلها مجلة “بتروليوم ويك” التي كانت تكتب لها “جابلونسكي”.

في الحال بدأ عمل البريطانيين بأكثر “جدية” في البحث عن النفط في أبو ظبي برا وبحرا، وتنقيبا وحفرا، حتى تمكنوا بعد عام ونصف أن “يبشروه” بحقل “أم الشيف” في جزيرة “داس” التابعة لأبو ظبي احتلالا.

كان الشيخ شخبوط الحاكم الرابع عشر لإمارة أبو ظبي، رسميا يعدونه الثاني عشر، حيث اغتيل معظم حكامها في سبيل الحكم، فوالد الشيخ شخبوط نفسه، سلطان بن زايد سبق وأن حكم الإمارة بعد قتله لأخيه حمدان، وبدوره هو (سلطان بن زايد) قتل على يد أخيه “صقر” بطريقة في غاية في البشاعة.

وذلك حين دعاه لوليمة وكان معه مجموعة من “قبيلة المنصوري” لتعينه على جريمته، فقتله بإطلاق الرصاص على مؤخرته، وحتى ابنه خالد والذي كان صبيا حين رافق والده، حاولوا قتله وحين وجدوا فيه بقية حياة، رموه من فوق الحصن، ومع ذلك كتبت له الحياة وعولج، وقد حاول عمه صقر إيقاف علاجه لكن تدخلات من كبار السن أنقذته والحقته بأسرته التي فرت إلى سلطنة عمان، حيث قبلت بها على مضض.

كانتا أبو ظبي ودبي ملكية عمانية ولكنها صحراء قاحلة غير مأهولة فلا توجد فيها أدنى مقومات الحياة، وكانتا بالنسبة لها أشبه بسجن كبير، اتخذته لترمي إليه بالعصاة وقطاع الطريق واللصوص والقبائل التي امتهنت السلب والنهب من “بني ياس” والتي ينتمي إليها آل نهيان وآل مكتوم.

كانتا أشبه بـ”جزيرة الشيطان” على سواحل غويانا الفرنسية بالنسبة لفرنسا خلال القرن الثامن عشر، والذي كان يعد السجن الكبير الأكثر وحشية في العالم حيث كانت ترمي إليه أيضا بالقتلة والمجرمين واللصوص ومعهم الذين اعتدوا على شرف نابليون الثالث.

تغير كل شيء الآن، بعد النفط، فبعد أن كانوا يتقاتلون على بقايا تمرة كما عبر نزار قباني، صاروا يتقاتلون على كنوز من ذهب أسود ما حلموا بها قط.
لم يكن سهلا آنذاك إزاحة الشيخ شخبوط المزعج للإنجليز وللشيخ زايد أيضا، والذي رأى فيه الإنجليز رجلهم المنتظر.

كان الشيخ زايد دوما ما يتم إبعاده من قبل أشقاءه عن أبو ظبي، تارة للعين وتارة للبريمي، بعد أن أحدث العديد من المتاعب لهم وشكل خطرا حتى على أمن أبو ظبي من قبل الجارة دبي، وعدد من القبائل التي كان الشيخ زايد يرسل برجاله لنهب إبلها وأغنامها.

في عام ١٩٤٨ كادت أن تحدث اشتباكات ما بين دبي وأبو ظبي حين دفع الشيخ زايد “خواياه” من قبيلة المنصوري لسرقة إبل تابعة لحاكم دبي، وأدت إلى أن تحرم بريطانيا أبوظبي من حصتها من القماش والسكر تأديبا، وكله بسبب أعمال الشيخ زايد العدائية بحق جيرانه.

وطالما حدثت الخلافات ما بينه وبين شقيقه هزاع والذي كان يعمل على تأسيس علاقة طيبة ووطيدة بدبي وبالإمارات المجاورة، كان مثقفا ولديه حنكة وحكمة، خاصة بعد السنوات المرة التي تشردت فيها الأسرة بعد مقتل والدهم، أيضا الشيخ خالد لم يكن على وفاق مع شقيقه زايد وكان لا يبتعد كثيرا عن حنكة شقيقيه هزاع وشخبوط، (نفسه خالد الذي سبق وأن رماه عمه من فوق الحصن عند الانقلاب على والده وقتله).

إذن لا بد من التخلص من هذين الشقيقين هزاع وخالد، حتى تسهل مهمته ومهمة الإنجليز بالتخلص من شخبوط.

في عام ١٩٥٨ سافر الشيخ هزاع مع شقيقه الشيخ زايد إلى أحد مستشفيات بومبي في الهند، وعاد ميتا، بعدها بسنوات أيضا مات الشيخ خالد في ظرف غامض، وهكذا عبدت الطريق أمام زايد.

كانت والدتهم الشيخة “سلامة بنت بطي” قد أخذت عهدا من أولادها جميعا أن لا يقتتلوا في سبيل الحكم وأن لا يختلفوا فيما بينهم، خاصة أنها كانت زوجة قاتل وقتيل ورأت بعينيها نتيجة ذلك.

في أغسطس من عام ١٩٦٦ أعلنت بريطانيا حالة الطواريء في أبو ظبي وحاصرت القوات البريطانية “قصر الحصن”، ومنه اعتقلت الشيخ شخبوط وعزلته عن الحكم، وسلمت كرسي الحكم لشقيقه الشيخ زايد.

أما المعزول شخبوط فقد أرسلته بريطانيا بداية للبحرين ومن ثم لبريطانيا ومنها إلى لبنان، ثم نقل لخرم شهر في إيران، وبعد أن تم التخلص من ولديه في ظروف غامضة وهما في مرحلة شبابهما، الأول سعيد ولي عهد الشيخ شخبوط وابنه الأكبر توفي عام ١٩٦٦ أي بعد انقلاب الشيخ زايد بسنة، ثم تبعه الآخر، سلطان، حينها أعاد الشيخ زايد شقيقه شخبوط ليقيم تحت الإقامة الجبرية، بعد أن تأكد أن لا خطر منه.

بعد فترة أخذت الشيخة “سلامة بنت بطي” تسأل ابنها زايد: “وين أخوك شخبوط ما أسمع له رمس”.. فيرد الشيخ زايد: “سافر يداوي عيونه”!، كانت في ذلك الحين قد كبرت وذهب أكثر بصرها، وبرتها الأحزان بعد أن فقدت زوجها وعرشه ثم بدأت تفقد أولادها واحدا بعد الآخر، ولم يبق لها سوى “النضوة” زايد، وشخبوط التي تحاول جاهدة أن لا تسأل عنه كثيرا حتى لا تسمع خبر موت جديد يحرق فيها ما تبقى من حياة، كان يكفيها جواب أنه “سافر للعلاج”، لتطمئن أنه لا زال على قيد الحياة.

كان الشيخ شخبوط قد رأى مبكرا بوادر انفجار “ثروة الفجأة” في أبو ظبي وطالما حذر من الأخلاقيات الناتجة عنها لأنه يعرف طبيعة أسرته وأهل إمارته، وكان صادقا، فهو نفسه كان مقتصدا حتى في حياته الشخصية، وكتب له أن يعيش حتى عام ١٩٨٩ لير نتيجة ما حذر منه.

في عام ١٩٧٢ كان الشيخ زايد يخيم في باكستان للصيد، كان يقضي معظم أوقاته هناك، وكان تخييمه لا ينقطع عن هذه البلاد. ولم يكن “الصيد” وحده هو السبب فقد كانت تقام له ولدائرته الخاصة كما كان يطلق عليها، ليالي حمراء وحفلات بذخ وفجور وشذوذ، بعيدا عن عيون أبو ظبي والعالم كله، والمؤلم أنه كان يصطحب أحيانا بعض أولاده إلى مثل هذا السقوط الأخلاقي الذي لا رادع له.

وكانت هذه الرحلات تستمر لأسابيع وأشهر كما وكانت تشمل عدة دول أحيانا.

في عام ١٩٧٩ وخلال فترة خلاف حاد ما بين الإمارات وإيران، استغرب السفير الأمريكي “فرانسوا ديكمان” في أبو ظبي، من أن “الرئيس ونائبه” في رحلة صيد لمدة خمس أسابيع كان قد قضاها الشيخ زايد والشيخ راشد بن سعيد حاكم دبي، في باكستان: “في هذا الظرف على الأقل فليبق أحدهما أم أنه لا شيء يعلو فوق الصيد بالصقور”!.

في بداية السبعينات من القرن الماضي وخلال تخييم الشيخ زايد في باكستان، التقى بشخصية من الباكستان، شيطانية شاذة وغريبة وغاية في الذكاء والدهاء، كانت تلك الشخصية هي “آغا حسن عابدي”، حسب إقراره لا يعترف لا بشريعة السماء ولا بقوانين الأرض، كان ينظر للعالم وكأنه غابة مستباحة لكل من استطاع أن ينال منها، بعد مطاردته وسقوطه المروع والمخزي في براثين العدالة حين انهار البنك، وملاحقة القضاء في العديد من الدول له، حتى قضاء زايد حكم عليه بالسجن الغيابي لثمان سنوات كي يزيح عن نفسه الشراكة في هذه الجريمة، أعيد عليه نفس السؤال عما إذا كان على نفس إيمانه بأن العالم غابة، رد: وأكثر!.

عرض آغا حسن عابدي على الشيخ زايد ترتيب أموره المالية ووعده بزيادتها بأضعاف مضاعفة من خلال إنشاء بنك دولي بمهام واسعة ومتعددة لا سابق لها، كما عرض عليه ترتيب إشباع رغباته الجنسية ومتعه المختلفة ومعه كل من أراد بطريقة أكثر أمانا، وأقل تكلفة، حيث يقوم البنك عبر دائرة خاصة بترتيب كافة هذه الأمور.

وكأن الأنفس تجانست مع بعضها البعض، فسرعان ما وافق الشيخ زايد على هذا العرض، كان عابدي يعمل مع المخابرات الأمريكية وسبق له أن أدار بنكا آخر باساليب شيطانية جعلته محط إعجاب وكالة المخابرات الأمريكية، الآن سيتوسع المشروع بلا حدود وعلى حساب الشعوب العربية والآسيوية الفقيرة، كي يستفيد منها شياطين الأرض متى شاؤوا.

في أيلول من عام ١٩٧٢ تم تسجيل البنك: بنك الاعتماد والتجارة في لوكسمبورغ، وبدأ بثلاث أفرع رئيسية في لندن وكراتشي وأبو ظبي، عشرة آلاف سهم اشترك بها الشيخ زايد بداية، بما نسبته ٧٧% من رأس المال المودع في البنك، ليتوسع أعماله خلال سنوات بطريقة سريعة ومريبة، حيث أصبح البنك السابع عالميا، برأس مال قدره أكثر من ٢٠ بليون دولارا في أكثر من ٤٠٠ فرعا في ٨٧ دولة في أنحاء العالم.

تبين فيما بعد انهيار البنك بأن هناك مبالغ قارونية غير مسجلة في السجلات العلنية في فروع البنك، معظم أثرياء العالم العربي ورجال مخابراته الكبار ولصوصه وتجار السلاح والمخدرات والبشر أنشأوا حسابات فيه، منهم من لم يدفع شيئا بل تم الدفع له!، كما تبين أن العديد من المؤسسات الصهيونية على رأسها الموساد لها نشاط واسع من خلال هذا البنك.

لم يتخيل الشيخ زايد باب الثراء الواسع الذي فتح له عبر هذا البنك حتى جن جنونه، فدفع كل من له علاقة به من حكام وأثرياء أن يودعوا أموالهم في البنك، كما طلب من الأسر الثرية الظبيانية التي لها علاقات بأسرته أيضا فتح حسابات في البنك، والعجيب أن أحد الأسر الظبيانية متوسطة الحال والتي أودعت اموالها بطلب منه، ذهبت إليه لتستعيد أموالها بعد انهيار البنك لكنه رفض تعويضهم قائلا: “غيمة عدت وما مطرت”.

وبلغ به أن يطلب من كل الإمارات التي شكلت الاتحاد الذي ترأسه أن تدفع ٥٠% من دخلها لحكومة أبوظبي، وحاول تغيير دستور الدولة من أجل ذلك.

ادعى الشيخ زايد أن كل الإمارات وافقت على طلبه هذا ما عدا دبي والتي أعاقت مشروعه، تبين فيما بعد أنه ولا إمارة واحدة وافقت على هذا الطلب الغريب.

كما وضع كل الإمكانيات النفطية في أبو ظبي تحت تصرف البنك، وحاول ذلك مع بقية الإمارات الأخرى، بحيث صار البنك هو من يتحكم في سياسة الطاقة في الإمارات.

يتبع الجزء الثاني..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *