اخبار مصر

الكاتِبة العراقية مينا بشير تكتب: ارتِفاع سِعر الحُرّية | ثقافة وفن | بوابة الكلمة

تُرى ماذا يُريدُ الإنسان من هذه الحياة؟ سؤالٌ قد استَوطنَ ذِهني لسنوات كمُستأجِرٍ ثقيلِ الدم. هل يريدُ المال؟ البقاء؟ الخُلود؟ الشُهرة؟ السُلطة؟ الجاه؟ بصيغةٍ أخرى، ما هي الذُروةُ التي سنَصِلُ إليها في نهايةِ هذا المَطافِ الطويل المُسَمّى بالحياة؟ أو بالأحرى، ما هو الشيءُ الذي سنَذكرهُ و نَحمَدُ الله على حُصولِنا عليه ونحنُ على فراشِ الموت؟ أعلَمُ أن هذا سؤالٌ فلسَفيٌّ بَحت، فالفلسَفةُ امرأةٌ فُضوليةٌ تَدُسُّ أنفَها المَعقوفَ في كل التَخَصُّصاتِ والمَجالات الأخرى. في نظَري، إن كل عِلمٍ من العُلومِ البشَريةِ يَحمِلُ بُعدًا مُعيَّنًا من أبعادِ الفلسَفةِ الألف، وربَّما يتَسَنّى لنا اكتِشافهُ في رحلَتنا الدِراسية أو لا، ذلك يعتَمِدُ اعتمادًا كُلّيًا على حجمِ المَساحةِ الفِكرية التي يَهَبُها المَرءُ لعَقله كي يُبحِرَ إلى ما وراءِ بِحارِ الحَقائِق، وهذا الإبحارُ هو بعَينه تلك العمَليةُ المُسمّاةُ بالتفَكُّرِ والتَدَبُّر، والتي ذُكِرَت مرّاتٍ كثيرةً في القرآن الكريم. ففي عِلمِ الفلسَفة، يبحَثُ الإنسانُ عن الحَقيقةِ أو عن أقرَبِ صورةٍ لها. و كذلكَ في التَفَكُّرِ و التدَبُّر، فما التدَبُّرُ سوى البحثِ عن لمسةِ الله تعالى في كل شيءٍ حولَنا، أو نستطيعُ القَولَ أنه عمليةُ تَقَصّي الإعجازِ في هذا الكون، والمَعنَيانِ مُتَشابِهانِ جدًا.

دائمًا ما أكتبُ عن الفلسَفةِ في نُصوصي ومَقالاتي، وعلى الأرجَحِ أنّي أجهَلُ السببَ الواضِحَ وراءَ حُبّي للفلسَفة. كما نعلَم، لكل شيءٍ جانبٌ مُظلِمٌ أو سَلبي، مهما كان ذلك الشيءُ جميلاً، وأظُنُّ أن القمرَ خيرُ مثالٍ على هذه القاعِدة. إنَّ لصَديقَتي الفلسَفة جانبٌ مُظلمٌ أيضًا، وهو الاستِفزاز. غالبًا ما تَستَفِزُّ الفلسَفةُ العُقولَ المُستَنيرة، إنها تستَثيرُنا لنَعصِرَ ألبابَنا حتي تنتَفِضَ في أعماقِنا صَرخة، حتى تُطالِبَنا عُقولُنا المسكينةُ بالرَحمة، دائمًا أقولُ أن الفلسَفةُ هي جَلادُ العُقول، وتَحديدًا عُقول المُفَكِّرين، ذلك أنها تستَمِرُّ بتَعذيبِ العَقلِ وجَلدهِ بسوطِ المَنطِق حتى يَعتَرِفَ ذلك المُفَكِّرُ المسكينُ بسَطحيةِ أفكاره، فدائمًا هناكَ قاعٌ أعمَقُ للفلسَفة. أذكرُ أن أحدَ أساتِذَتي في الجامعة، والذي كان يُدَرِّسُني مادّة الفلسَفة آنذاك في جامعة ويسترن الكنَدية، قالَ لي ذات مَرّةٍ أن الفلسَفةَ ما هي إلا زِلزالٌ يَهُزُّ أيديولوجياتِنا الثابِتة ويُزَلزِلُ قَناعاتنا الراسِخة. ولا شكَّ أن هذا الوصفَ بالغُ الدِقّة، فالفلسفةُ لم تَكُن يومًا خَطًا مُستَقيمًا مُكوَّنًا من سببٍ و نَتيجة، بل هي تفتحُ لك بابًا فِكريًا آخرَ في اللحظةِ التي تَظنُّ فيها أنك قد وصَلتَ إلى آخرِ جِدار. إن الفلسَفةَ من مَنظوري الضَيق هي جَريمةٌ كُبرى، وكلما تعتَقِدُ أنك قد حَلَلتَ اللُغزَ أو وصَلتَ إلى طرَفِ الخَيط، تَجِدُ أمامكَ دَليلاً آخرَ وأطرافًا كثيرةً لخيوطٍ مُتَشابِكة. و قد قادَتني عَصا الفلسَفة إلى إجابةِ ذلك السؤالِ المَطروح في بدايةِ المَقال، وتتكَوَّنُ تلك الإجابةُ من كلمةٍ واحدة: الحُرّية.

يبحَثُ الإنسانُ دومًا عن الحُرّية، في مُختلَفِ العُصورِ و الأزمِنة، ذلك أن الفِطرةَ هي بذرةُ الإنسان، والحُرّيةُ هي قِمّةُ الفِطرة. عندما يولَدُ طفلٌ إلى هذا العالَم، يُقطَعُ ذلك الحَبلُ السُرّيُّ الذي يَربطهُ بأمّه، فيصبِحُ حُرًّا طَليقًا بعد أن كان حَبيسَ رَحمٍ ضَيق، يَغدو حُرًّا مُنفَصِلاً بعد أن كان مُرتَبِطًا بكَيانٍ آخر. تلك هي أولُ رَشفةٍ من كأسِ الحُرّية. ثم تسيرُ بنا قافِلةُ الحياة، ونستَمِرُّ بالبحثِ عن أنماطٍ أخرى للحُرّية، في مُحاوَلاتٍ مُستَميبتةٍ للعودةِ إلى الفِطرة، إلى تلك الصفحةِ البيضاءِ التي لم تُلَوَّث، لكن الفِطرةَ تبدأُ بالتَلاشي شيئًا فشيئًا. إن حقيقةَ هذه الحياة هي أنها رحلةُ بحثٍ مُستَمِرّةٍ عن الحُرّية، وبالأخَص حُرّية الاعتِقادِ والتَصديقٍ و التفكير. لكنَّنا نَجِدُ بعد أن يلتَهِمُ النُضجُ أرواحَنا، و بعد أن نَمُرَّ بمَراحلِ الحياة ونُصبِحَ أعضاءَ فَعّالينَ في العالمِ الخارجي، نَجِدُ أن هذه الحُرّيةَ تَنقَشِعُ تَدريجيًا من سَماواتِنا اللامُتَناهية، ذلك أن أولئكَ “الآخَرينَ” سيبدأونَ باقتِحامِ مَساحةِ حُريَّتنا كجُزءٍ من طُقوسِ البُلوغِ أو نوعٍ من إثباتِ الوَعي والرَشادِ لديهم. يبدأُ أولئكَ “الآخرون” بتَصميمِ القَوالبِ الضَيقةِ ليَضَعونا داخلَها كالكَعكِ الجاهزِ للتَقديم، ثم نُقَدَّمُ على أطباقٍ من ذهبٍ أو فِضّة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *