اخبار عمان

قصة القرية العالقة (الأخيرة) | جريدة الرؤية العمانية

 

الكاتب: حمد الناصري

 

قال حمود وهو يمسح دمعة عينيه:

ـ كانت أمكّ خديجة ذات موهبة رائعة ، كانَت لديها قوة فائقة على التنبؤ ، وقُدرة خارقة من العزم ولديها قوة وصَلابة، جريئة وشُجاعة ، شديدة الاعتداد بتراث القرية تعتزّ بالقِيَم وما ورَثته من أهلها ،كُفْؤةٌ كالرجال ، عزيزة وكريمة في نواياها  ، عصيّة على الغُرباء ، حدسها لا يُخيّبها أبداً وظنّها لا يُخطئها .. تُؤمن بِمَبدأ التعايش دون تفريط في قِيَم الايمان.. وتُعْطي لكل شيء مِقْدار، لا إفراط فيه ولا تفريط.؛

 

قالت أُمّك ذات مرّة وهي حاملٌ بك .. ربّي لا تَخفى عليك خافية ، صغيرة أو كبيرة .. تَعلم ما في بطني ، وتعلم صِدقي ومشاعري وما أخفيتُه وما أَعْلنته ، وإني نذرتُ عُمرهُ ونقاءهُ ومَشاعره لك وحدك خالصاً نقياً حتى ترضى..؛ فاجْعَلهُ حسناً جميلاً ، عِزّة للقرية رَضِياً بأهلها ، صالحاً وصادقاً مَرضِيّا ، و اجعله ربّي كريماً نافعاً نَقِيّا.

 

استرجع نَفَسَه قليلاً وهدأ.. ثم استطرد، ما أتذكّرهُ يومئذٍ أنّ أُمّك بكتْ بُكاء مُراً ، بُكاءً قاسياً ، بكتْ خديجة بكاءً شديداً ، حتى احْمَرّت وَجْنتيها ، مجروحة في بكائها ، حزينة في دموعها ، تائهة ، مكلومة في أهلها وعزّتها قريتها العالقة ، كلماتها حزينة مُؤثرة ومُؤلمة ، وشَفتيها تورّمت مِن الغَيظ والضّيق حتى احمرّتا.. تلفّتت خائفة وجِلَة، تبحث عن قوة وعن صُمود وعزّة.. رَفعتْ يدها مَبْسُوطتان إلى أعلى.. إلهي، أنتَ ربيَ الاعلى، فاخْلُفني بولدٍ مِثْل أبيه، مُشرقاً كضِياء يَخرج سَناء بَرقه من نور عظمتك، نور ساطع وضِياء مُتّقد بالأمان والسلام.. يُشْغل الناس جميعاً بكُلّ ما أُؤتي من قوة، شامخاً كالجبال، عزيزاً كالرمال، مَليئاً بحبّ القرية والناس كصَيْب السّماء للأرض.

وكأنّما شُعورها امتزج بشيء من الايجابية، اهتزّتْ يَداها وارتجفتْ، ربّي.. أَجِبْ دُعائي، فيَذهب الظَلام ويَبقى الضِياء، نوراً في السماء ويكون أحمد كغَيْمة عالية مُمْطِرة، تُبَشّر ضِحكته الأُمّة عِزّة وشُموخاً، زاهرٌ بالنصْر كيّسٌ بالرّشاد مُكَلّل بالتوفيق والاستقامة، مُعْتزاً بقِيَمهِ مُتمسّكاً بتراثه.. لا يَخشى أحداً مُهاباً وقوراً، عزيز ذو مَقام كبير وهَيْبَة، إذا قال أو تكلّم، قويّاً شديداً على الذين تجاوزوا حُدود الكرامة وصاروا ندّاً للقِيَم الاصيلة.. قاسِياً عَصِياً على الفاسدين الذينَ ارتدّوا بشقوتهم، واتّخذوا سُبلاً فِجاجاً واسعةً ومُتفرّقة، بطروا في أسْفارهم، حرّفوها زيفاً وكذباً وحِقْداً وحسَداً، تطاولوا زُوراً وبُهتاناً على صَفوة إيماننا ومُعْتَقدنا، وأحرقوا كُتبنا ومراجِعَنا، دمّروا آثارنا واسْتهانوا بقِيَم تُراثنا، وبدّلوا كُلّ ما هو خيرٌ نَتّبعُه وابتدعوا قِصَصاً باطلة وأحاديث كاذبة للناس.

 

صوّب نظرهُ إلى أحمد وكأنّه يأمُرَهُ بأنْ يَقتدي بوالديه.. كانا عُنفوان فُتُوّة وقُوة وكِبْرياء ، وكانا أُمّة بأكملها ، والقرية شامخة بجمالها ، صامدةٌ رفيعة المَكْسَب ، شامِخة بالعِزّة ، كانت ملامح وجهيهما تكشف عن شموخ وعزة الانسان الاصيل ، ينظران إلى القرية وساحلها بترقّب وشموخ ، كواقع فيه شموخ وعزة ، مبانيها تميّزت بفن سَهْل مُمْتَنع، وكأنّما تلاقحت فيهما أصالتين وامتزجت بهما حضارتين لا زالتا حَيّتان نابِضتان وساعِيَتان إلى عصر يتجدّد فيه كل شيء.؛

 

 وبدتْ المَلامح الرفيعة على طبيعتها واتّسعت إيجاباً لحاجة حياة الانسان يومئذ .. فتكوّنت حَضارة بشرية عَميقة وبدتْ ملامح الحياة الإيجابية تَتجسّد في داخِلها، فاسْتقلّت بآرائها واعْتَدّت بفلسفة القِيَم الاصيلة وأدركتْ بقوة عقلية الإنْسَان الأصيل ولم تتقطّع بهم السُبل كما تقطّعَت بالذين تاهتْ  بهم جسور التراث وركبتْ رؤوسهم أموراً شتّى ، شتّتَت شَمْلهم وأفقدتهم صَوابهم.

 

ذلك الإنسان الأصيل هو إنْسَان قريتنا العظيم الذي لَم يُشْرك معهُ أحَداً وكأنهُ وُلِدَ بعَقل جاهز .

ـ ظلّ أحمد صامتٌ .. ولم يبزم بحرف. وكأنّ حركته توقّفت.

 

استأنف حمود حديثه حاثاً أحمد إلى الثبات وشاداً على يديه بالتمسّك بالقرية كما ثبتت القرية في عُمق الجبال الراسيات وكما تمسّكت الرمال بالبحار العميقة، ودفعتْ القريتين بمدّ حَبْل سري وبينهما مَشِيمة ربطتْ رحمَ العلاقة الأصيلة كجدار عُرف يومذاك بالساحل المُهادن.

 

ـ أُمّك ـ بُنيّ ـ إمرأة نادرة، تهتم بالقرية وساكنيها ، تُناقش في مَوروث القرية وتُجاهد في بقاء امتداده المشروع ، لكنّ قرية التُراث ، فُجعت بانزلاق أبيك من على صخرة المشروع البائسة فماتَ مِن لحظتها .. لم يُمْهِله القَدَر حتى يُسلّم عنفوانه وقوته إلى من تستقرّ  ثقته به .

 

خديجة امرأة في قمّة الذّهْنية المُتوقدة، عالية الثقافة ، سليمة المَبْدأ الأصيل كبيرة الاعتداد بالقِيَم والمَوروث القائم على حُب القرية والتمسّك بتراث آبائها وصَبر أجدادها على المِحَن.

 

كان أبوكَ عبدالله شديد الحرص على القرية، استقرّت مشاعرهُ في وطنه وكان دِفْء الوطنية في داخله.

إنّ أباكَ ، وطن اسْتقرّت في داخله  تجربة مَشاعر صادقة انتقلتْ إلى مَرافئ ناعِمة بالاسْتقرار في كل قرية تجاورتْ معنا واستقرّت على تجربة الوعْد الذي  بشّر به جدك الاكبر الاسعد ، بقاء مَوروثنا الاصيل وتُراث الأمّة البحرية ، فأمجاد رجالنا نتاج نشأ بين أمجاد تأصّلتْ وبين حنين آتٍ إلى مثل ذلك الزمن الجميل.

فقال قولة مشهورة قبل ثلاثة أيام من انزلاقه من الصخرة فتلقّته جرّافة المشروع الكبير بلا هوادة وطحنته كما تطحن الرحى حبّة القمح والشّعِير.؛ وتساقط عبدالله ظُلماً وعُدواناً وأسلمَت روحه غصباً ، كانَ ذلك اليوم ، يوم مَشؤوم ، عُرف ذلك اليوم بيوم الشرّ ؛

وكان من ضِمن وصَاياهُ تلك التي حملتها رسالته إلى الامة البحرية ..  فحافظوا على أمّتكم البحرية ، أُمّة بَعد أُمّة .. ولا تُفرطوا في امْتدادكم الطبيعي .. ذلك قدركم فتمسّكوا بجبالكم وأوديتكم ، لا تتخلوا عن أخوار المَلح بتاتاً ، وإنْ خُلِعت عنكم فردوا إليها ولا تستهينوا بمسطحاتها المالحة، فإنكم أنْ أبديتم مَنشطاً وجدتم مَكرهًا منهم ، سيكون الناس مَعضلتها فانتبهوا ، ولا تُهادنوها مُطلقاً ، فإنْ فعلتم فإنكم إذاً لخاسرون.

 

سكت حمود فجأة وأخذ يلوح رأسه بأسف وحسرة :

 

ـ بُني ـ أمك الغالية، كانت قبل موتها تشتهي أنْ تكبر ويبلغ رُشدك المُستقر ، وكانت تنظر إلى ثلاثتكم .. إليك وإلى اختيك.. وتُشَدّد نظرة عينها إليك لكونك الإبن الذي تمنّتْ أن يكون مثل أبيه .؛

ثم إلْتفتت إلى صَوبي بعينينِ تائهتين.. وأردفت:

ـ يا حمود .. بلغ إبني أحمد أني أعزّ القرية كما اعتزّيت به ، وإني لأعلم بأنه سيكون يوماً أميراً للبحر وسيّداً لتُراث القرية ، فليُحافظ على القرية البحرية الماجدة أولاً ولْيُمسك بكلتا يديه على القرية الأعلى” قرية الراس” وعلى القرية العالقة والامتداد والساحل والاخوار.. وخير ما أوصيكم به ، تعطيل المشروع الكبير ، مشروع  الغُرباء ومن عاونهم ، فإنْ لم تقدروا ، فأذنوا بحرب وقاتلوهم وانفروا جميعاً ، خِفافاً وثقالا،  لا يُخرجوكم من قريتكم ولا يُبعدوكم عن الامتداد والساحل ، ولا تدعوهم يدخلون عليكم قريباً او بعيداً فإنْ هم دخلوا فقد يُلزموكم بأمرهم ولن يخرجوا أبداً .

 

ـ لماذا ..؟

ـ إن يُلزمكُوموها، ويُجبرونكم على فِعْلها أو قُبولها في بلدكم فأنتم إذنْ يَومئذ خاسرون.؛ وإنْ لم تُعَجّلوا في أمركم فقد وجبتْ وإنْ وجبتْ عليكم فقد يُلزمكوموها بأمرها ومن لُزِمَ بأمرٍ يُستضعف فيَقبله كارهاً ومَغصوباً لا طوعاً فيه ولا رِضاً.؛

 وترقبوا الأخبار  والمَسالك والدُّروب ، وانتظروا ما الذي سيأتي، فرجاً قريباً ، فالسُحب تُرى لكن السّماء تُمطرها ، فإنْ هيَ أمطرتْ بغتة ، فاعلم أنّ الامر جسيم والرأي غشيم .. وفي تُراثنا العريق يُقال” إنْ اشتعلتْ النار تضخّم الرماد”.؛ فاختر لنفسك أيّ مَجْد تُريد أنْ يُذْكَر بك.!

 

توقّف حمود فجأة ثم التفت إلى أحمد وقال:

 

ـ  بُنيّ.. إنّي أرى ما لا ترى.. وما أعرفه أنّ أمّك مُحِقة في ما ذهبت إليه ، لقد ذكرتْ لي مرّة ، أنّ بحرنا الكبير وقريتا التراث والعالقة سَتمرّانِ بظروف قاسية وستكون عين خونة الاخوار والساحل الطويل على واسع امتدادنا البعيد.. أجدادنا الأوائل صَنعوا التاريخ بعقولهم وبأيديهم وآبائنا أجادوا فكّ العُقَد فصنعوا المَجد والشُموخ بقوة وصَلابة وأداروا دفّة سفينة الحياة بجَدارة واقْتدار وعَلِموا  بأنّ كُلّما تَعمّقْت في المعرفة ، خشيتَ الجَهْل وكنت أكثر اقتناعاً بالحقيقة العميقة لتراثك وأصالتك.. ولنْ يكتمل الموروث ما لم تكتمل الهويّة في الحياة ومنها يَنطلق المَجد والشُموخ.. أَهْل قريتنا أُمّة تاريخ ومَجد وشُموخ وستبقى هذه الأمة خالدة لسِنين طويلة، عامِرَة بالأمجاد والحضارة المُتجددة.

قرأتُ في بعض الكُتب ، ككتاب” شَمس الحقيقة” رغم أنّ الكاتب يَعود أصْله إلى الغُرباء ولكنّ الكاتب استخدم في سرديته مُبرّرات مُدهشة لتفادي الوقوع في الشُبهات الثلاثة التي جيئتْ بهم إلى قريتنا وبَحرنا، فالغُرباء قاموا بالمُهمات التي جاؤوا من أجلها كتعريض القِيَم وتشويه المُعتقد وإضْعاف المُقاومة الحقيقية وقتل التراث  ونهب الثروات وانتزاع الثقة بالنفس.

 ورغم أنّ تلك المَساوي لم يَتحقق شيء منها على أرض الواقع إلاّ أنّ الكاتب وصَف رجالنا وصْفاً دقيقاً يَليق بهم ، حرصتُ على قراءتها لكونها سَردية تستحقّ الالتفات إليها ” أؤلئك الرجال ، قوم صدقوا ما عاهدوا عليه أنفسهم بإيمان عالٍ ، وقوة مَتينة ، فالشمس من فوقهم والحقيقة الايمانية كظِلّهم رِفْعة ومَجْداً ، ذئابٌ في الظلام الدّامِس .. رجال شرف وعِزة شرقاً وغرباً.. ولولا أنْ دَسْسنا الأشْرار مِن بَينهم لَبَنَوْا سَداً مَنيعاً لنْ يُجاوزه أحداً غيرهم..”.

 

سكت حمود ثم استأنف .. وفي  نفس الكتاب ، قرأتُ أيضاً عن أهل قريتنا ، كلاماً ثقيلاً ” كانوا رجال عِزة وشُموخ ، أجبروا الغُرباء بأنْ يجعلوا لهم خَرْجاً لازماً ، مكّنهم من التفوّق عليهم بالقوة ، وجعلوا بينهم سَداً حصيناً وجعلوا بين قرية التراث وبين الاخوار المالحة حاجزاً يُقيّدون بها حركتهم ونشاطهم.”.

 أعْجِبتُ جداً وأنا استمتع بقراءة النص ” أهْل القريتين ، قريتا البحر والعالقة آمنوا بما لديهم من قوة في البرّ والبحر والسّهل والجبل فقدّموا كل شيء مُمكن .. وبينهم رجالٌ يُقدّمون أنفسهم لأجل أرضهم ، إنّهم قومٌ ذو عِزّة لا يَعْتدون على الانفس أبداً ولا يقبلون أنْ يتعدّى أحداً على حقّهم أو على حقّ الاخرين  بتاتاً؛”.

إنهم رجالٌ يُؤمنون بأنّ الاخوار بين القريتين لا يحجبُها عن شمالها ولا يصدّها عن غربها، والقريتين البحرية والعالقة، على مُستوى مُتقابل ، إلا ما وضعه الغُرباء من حاجز يتستّرون وراءَه ، وكُلّما ساءتْ الظروف ، ذلك هو قدَر رجالنا  ، ليذوقوا صَواب القَدَر الجميل الذي يدفعهم إلى المسير الاجمل .

 

ألقى نظرة طويلة في عين خاله حمود وقال:

 

ـ صدقتَ خالي ،  فحضارة الخير أسّسها الرجال ، وامْتَدّت إلى أقاصي الآفاق العالية ، كانوا رجالاً آمنوا بأنّ ماضيهم خالد فصانوا أمْجادهم وعَمَروها بالإيمان الرفيع ، رجالٌ لا يَتكلّفون في عَيشهم ومَعيشتهم ، سجاياهم لا عِوَج فيها ولا أمْتاً إلا ما ظهرَ منها خُلقاً وخَلْقا.؛

 ولذلك فأنا مُنبهرٌ بالقِيَم والتُراث ومُنبهر بطبيعة أَهْلنا كأني أجد فيهم بشرية تُدهش الناس كل يوم .. وفي كل حضارة امتدت سعوا إلى تطوير قيمهم وعلاقاتهم بالزمن والناس  فيزداد موروثهم جمالاً وسِعَةً في القِيَم وبَسْطة في الأخلاق وتقارباً مع الناس.؛

 

قال حمود الاسْعد وقد غرز عينيه في عين أحمد ، وكأنه يُريد أنْ يُلقي إليه وصيّة أمه خديجة بأسلوب تقليل المسافة:

 

 ـ اسْمَع ـ بُنيّ ـ لا أحدٌ من آبائك أو أجدادك قد تواطأ مع الغُرباء ، جميعهم قاوموا  المُعتدين على أرضنا وكسروا شوكتهم في الساحل وفي الأخوار وفي البحر المفتوح.

 

 أجْدادك أهل ثباتٍ وعزّة ، حافظوا على بحر القرية العالقة واحتفظوا بالمَدخل الضيّق والماء العميق وسادوا البحار وجابوا مسالكها ولُقّبوا بأسود البحار .. وقفوا بقوة في وجه طُغيان الغُرباء، قاوموا الاستبداد، صَانوا كرامة هَيْبتنا وبَقوا على القِيَم الانسانية وعزّتها .. هزموا الأشْرار المُنبتّين شرّ هزيمة ولقّنوهم درساً لن يَنسونه أبداً.

 

***

 

بدا أحمد يَتخايل ويُفكّر ويُرسل صُور ذهنية عالقة إلى مُخيّله ، تشغل أحداثها باله ، أُعْجِب بها وتفاخر ، صُور ومَلامح واقعية ومُتخيلة ، تتقَطّع سُبَلها وتضطرب أحياناً .. وتساءل في داخله، لماذا ينشغل الناس بالأحقاد بينهم.؟

 

تخايل ابوه وكأنه يَستفرد بأفكاره، يُحادثه ، يُخبرهُ عن بعض شأن أمّته والقريتين .. أبي .. أصابتنا حالة من الوهْن والضَعْف ، ذلك ما آلتْ إليه أمّتنا من بَعد سيرة كبيرة و قوة .. إنهُ ليَحْزُنني أنْ يُفارق التاريخ صَيرورة مَوروثاً هائلاً بعد أنْ كُنا أسياداً ، بنيننا حضارات عِظام بأفكارنا وأخلاقنا وشيّدنا ممالك واسعة لم يصل إليها أحداً قبْلَنا وكُنّا ملوكاً بِقَيَم لم يَمَسّها أحداً حتى يومنا هذا .. ولم تنقطع عاداتها وقِيَمها وأخلاقها وأساليب عيشها كصبغة اصطبغ الناس عليها كما اصطبغت عليها حياتنا ، وبقتْ مُستمرة رغم التغيير.

 أبي الغالي ..أمّتنا .. سكت ودمعتْ عينيه .. فُتِنَت بعذابات الاصطفاف والخنوع ، وظهرتْ رجولة غير رجولتكم .. وأمّة لا عُدّت منكم ولا هيَ أمّة يُعتدّ بها .. أمة مجرّد ذكرى ، تُثير شُجون فخر الاولين ثم تنطفي جذوتها من أفئدة الخانعين ، حين قبلتْ أن تبقى تحت وطأة الهوان ذليلة ، تئنّ  بالاضطهاد وآلتْ الظلم على نفسها .. تحوّلتْ إلى صِراعات أهلية وانقسامات.. ودسائس لم يَبْرأ أحد منها .. حتى الساحل الطويل قد تقطّع وغُيّبت مَعالمه ، ورمالنا الذهبية وُئدت وبذنب فِتن حالكة السّواد

 

 أُخْبِرك أبي ما نويتُ أنْ أُخبرك به ، ساحلنا  الطويل ورمالنا الذهبية ، قد أحْدِثت فيهما فِتنٌ سَوداء وظَلْماء ، شوهّت مكانة الامة .

أبي الغالي ..  لم أكفّ عن التفكير بالحياة الشامخة ، وثَروة القرية الكبرى.؛ لكن السيرة آخذةٌ إلى التشرذم وسايرةٌ إلى التمزّق وآيلة إلى السُقوط.؛

 نعم أبي ، أمتكم ، أمة عِزة ومقام كبير وبأس شديد ، فكانت

 الارض تسير بهم مُيسّرة ، سِراً تحت أقدامهم .. ومن لا يتذكّر لحظة سُجودك والجرّافة من فوقك تَكْسِر ظهرك ، وتَلْوِي عُنقك.؛ وأيقنتُ من نظرة عينيك واتّساعها بأنها مُلِئَت بالمكان حُباً وبالأرض شغفاً .. ولم أتوقّف من النّظر الطويل إلى اتّساع عينيك .؛

ولدي الحبيب ، كانت كلماتك قوية وصادقة عبّرت عن نفحة اطمئنان ، أنّ الساحل الطويل امتداد باقٍ لقرية البحر وكلاهما جذور تأريخية من قرية التراث والبحر ينضخ  قُبالتها لكأنما صَرير الوادي والرمال نافع لأخوار الملح.

ولا أقول لكم غير بقاء ما دافعتُ عنه .. قِفوا أمام عظمة التراث الماجد وانظروا إلى الرمال والأخوار .. أكسروا الحاجز وتعمّقوا فيه.. ففيه جواهر مكنونة وقوموا إلى البحر الضيّق ولا تُفرطوا فيه أبداً ولو بلغت الدّماء كالسيْل المُنهمر.؛

ولا تلتفتوا إلى أيّ مخاوف وليكن رباطكم بأقصى حدّ الارتباط الوثيق بقرية الرأس الاعلى .. لا تدخلوا في صِراعات أهلية ولا إلى انْقسامات لا تحمل في جوفها غير فِتن لا مَخرج منها.

 

وكأنّ صوت أمه يتهادى فترد وكأنها تستكمل حديث زوجها عبدالله:

ـ ولدي الغالي.. قِفُوا جميعاً بصلابة عِند كلّ حَبّة رَمْلَة يابسةٍ أو قطرة ماءٍ مالحةٍ ولا تُفرّطوا فيهما أبداً ولو كلّفكم العُمر كُله والمال أَجْمَعه.؛

 

 

وأخذ أحمد يَسترجع قوة ذلك الزمن البعيد بتعقّل وكياسة وفطنة وعقّب مُحاوراً أمه:

 

ـ لا أخفيك سِراً أمّي، فالفِتْنة قد مَسّتْ تقاليدنا وبَدّلت أعْرافنا وغيّرت قِيَمنا ..ونحن نعلم عِلْم اليقين بأنّ تاريخنا كبير وبحرنا عظيم وامتدادنا طويل والقريتين بُنية واحدة وقريتا البحر والعالقة ماجِدَتان لن يَقدر عليها أحداً. ولن يُقطع حبل امتدادها .. وإني أعدكِ أنّ الخديعة لنْ تُمَرّر مرة أخرى.

 

سكتَ ولم يبزم بحرف .. هزّ رأسه .. وكأنه بدأ يُلزم نفسه تجاه ابيه وأمه.. وهز رأسه وتمتم .. السَواد والبَياض خطّان مُتوازيان لا يَلْتقيان، فإمّا حرب بَعْدُ وإمّا سلام.؛

 

رجال في سَيْر مُنتظم ، يقفون أمام أحمد الماجد ويتحلّقون حوله، ونِساء يَضْربن بخُمرهن بغير زينة يُبْدينَها، وصِبْية بعِزّة يُعاهِدونهُ على التمسّك بتراثنا الماجد يَقفون كالنّمور غاضبون، فكانت تلك رسالة كبيرة ، عُرفت بالسيرة الزاهية ، طُبِعت عليها أفئدتهم وألسنتهم وكانَ أمرهم قواماً بين جسامة المَكْره وسلامة المَنْشط.؛

 

  انفجرت القرية عن بكرة أبيها .. نحن معك يا أحمد، نحن معك.

 انتهت..

23 ابريل 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *