اخبار عمان

مسافة السلطة | جريدة الرؤية العمانية

 

سليمان المجيني

[email protected]

أعتقد أنَّ فلسفة القُرب قائمة بنحو ما على هذا المؤشر “مؤشر مسافة السلطة” لعالم الاجتماع الهولندي “جيرت هوفتسيد” في نظرية الأبعاد الثقافية، وهي في الحقيقة موجودة في تعاملاتنا وبشكل أساسي نجدها ضمن تعاليم ديننا العظيم، ولا أستبعد لهذا العالِم دراسة تلك التعاليم ومقارنتها بالواقع في ثقافات الشعوب ومن ثم استنباط نظرية تدرس في مجال علم الاجتماع النفسي.

ملخَّص المؤشر أن هذا العالَم قائم على مستوى سلطة عالِ ومستوى سلطة منخفض، وينظر مستوى السلطة المنخفض إلى الموظفين بالتساوي بغض النظر عن مستوى سلطتهم في المؤسسة، بينما أصحاب مستوى السلطة العالِ فإنهم يؤمنون بنفوذ أصحاب السلطة الأعلى فيها، وبشكل أبسط فإن المؤشر يرسم ملامح السلطة ومدى تقبل الموظف لها بين أن تكون متمركزة في نطاق ضيق أو موزعة بشكل غير متساو في المؤسسة مع مجموعة معينة.

والأمثلة التي يمكن البناء عليها في هذا الصدد مستوى التمثيل الهرمي لأي مؤسسة من رئيس مجلس إدارة إلى نائب، ثم مدير عام، فمدير وهكذا حتى نهاية السلم الوظيفي، هذه المستويات قد تخلق التباين المقصود في المؤشر، فمثلا حاجة الموظف لاطلاع رئيس المجلس على مقترحه قد يأخذ فترة أطول وربما تأويل مختلف، بينما علاقة القرب وكسر الجدران في علاقة الرئيس بالمرؤوس قد تؤتي بنتائج باهرة وسريعة.

ومع ذلك، في نطاق التعامل الشفيف، فإنَّ جزءًا من العلاقة الرسمية يجب أن يكون حاضرًا بين الاثنين، ولا يتعدى أحد على الآخر، كسر الحواجز لتمرير المقترحات البناءة واطلاع المسؤول الأعلى عليها من مصدرها ودون زيادة أو نقصان أمر مهم أيضا، وعلاقة التعامل القريب في غاية الأهمية للمسؤول الأعلى وللموظف وكذلك للمؤسسة.

كسر الحواجز يكسر الجمود ويحرك الراكد، يوقد الهمم ويُعمِل العقل، ولننظر في تاريخ ديننا الإسلامي، وهو ما أشرت إليه في صدر هذه المقالة، كيف كان تعامل القادة مع موظفي الدولة وكيف كان المنجَز، النتائج المبهرة في ذلك الوقت لا تحتاج إلى ذكر فهي تعرّف نفسها، وتشرح ذاتها، بل تقدم نفسها في كل حديث وإنجاز، وهذا الإرث الذي نذكره بين حين وآخر في أحاديثنا يجعلنا منبهرين بالمنجز.

ما بين القرب والبعد، تعتمل الكثير من الشخصيات، تنشط أو تُحبَط، تعمل أو تُحجِم، تجتهد أو تُهمِل، ولا شك أن القُرب يعد عاملا مهما للنشاط والعمل والاجتهاد بينما بُعد المسؤول يؤدي إلى تفعيل النواحي السلبية، وإنتاج المؤسسة يحتاج إلى قرب القائد من فريقه، يشعره بأهميته وبأنه جزء من المنظومة الإنتاجية وليس زائدا عليها.

وضع “جيرت هوفستيد” بناء على دراساته الاجتماعية والنفسية الدول العربية ضمن مسافة السلطة العالي، وهذا النوع من السلطة بعيد اجتماعيا عن الفرد، بينما وضع دولا كالدنمارك والسويد وغيرها ضمن الدول ذات المسافة المنخفضة للسلطة، وفي الأولى مزيد من الميوعة وانخفاض في درجات الإنجاز وتسود بين أفراده المحسوبية ونظرات التشاؤم والإحباط، بينما تزيد فرص الإنتاج والسعادة بالشراكة والإنجاز في الثانية.

كما تسود فرص تكوين مجموعات معينة وسلوكيات غير سوية هدفها الترقي على حساب الأفراد الآخرين دون النظر إلى أعمالهم وإنجازهم وتنخفض نسبة الرضى لدى العاملين بالمؤسسة في النموذج الأول، بينما في الجانب الآخر يشمل الإنجاز كل الفريق وتزيد فرص ارتقاء المؤسسة بأعمالها وإنجازاتها، كما تزيد نسبة الرضا لدى أفرادها.

وبالتالي؛ أرى أهمية إعطاء برامج تدريبية لشرح أبعاد هذه النظرية بكل مؤشراتها، وأهمية بناء القادة على أسس التقارب وتذويب الفوارق مع بقاء هامش السلطة قائما بطريقة سلسة ومعقولة، أما أن يحتاج الموظف إلى فترات طويلة لشرح فكرته، وربما تحويرها ونسبها إلى آخرين في طريق صعودها للمسؤول الأعلى؛ فهو أمر في غاية الظلم وستكون المؤسسة خاسرة وسيخلق مثل هذا الأمر، وهذا الجفاء من المسؤول الأعلى تبعية مكرهة وسكوت إجباري من الموظف خشية الانتقام وإيقاف الترقيات.

هذه المسافة التي يفتعلها المسؤول المُفْتَرَض هي مسافة وهمية غير حقيقية، وليس لها أصل في الهياكل الإدارية للمؤسسات الحديثة، حتى تلك المسافة الظاهرة من خلال اختباء المسؤول بين أربعة جدران هي مسافة ضائعة أيضا، فالنظريات الحديثة في الإدارة والتي ربما اتكأت على نظرية ” الأبعاد الثقافية” تعتمد على كسر الحواجز ونظام المكاتب المفتوحة، هذا الأمر ربما يجر المسؤول الأعلى للقرب أكثر من الموظف.

وأحيي جميع المسؤولين في نطاق بلادنا الغالية ممن يتعاطى مع الموظف الصغير قبل الكبير، يحدثه عن أمنياته في العمل، طموحاته ومراميه، وعن مقترحاته لرفع مستوى الإنتاج خصوصا في الشركات سواء الحكومية أو الخاصة، أو حتى المؤسسات الحكومية الخدمية وغيرها، ذلك المسؤول الذي يقتطع جزءا من وقته لزيارة الكادر الوظيفي بمؤسسته، فالتغييرات البسيطة وتلبية بعض الأمنيات الصغيرة المحفزة أمر كبير ويفرق لدى الموظف.

والعمل على انخفاض مسافة السلطة يؤدي إلى ثقافة إيجابية ويرتفع مستوى الرضى للموظف وهو عمل جليل يسوقه الغربيون في هيئة نظريات ومثل عليا، وأجده منطقيا لأنه من ثقافة وتعاليم ديننا في الأساس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *