اخبار عمان

ذاكرة الغياب | جريدة الرؤية العمانية

 

سليمان المجيني

[email protected]

 

من الصعب التخلي عن الذكريات؛ بل من الصعب التغافل عن أحداثها؛ فالواقع يغمرنا بأحوال مشابهة أو مرتبطة بالماضي، أو بأشخاص تجرنا عنوةً للخلف ننظر فيهم البساطة، حياة السعة وعدم التكلف، نعيد إنتاجها في أذهاننا ونحفز تفكيرنا بإيجابية نحو الشخوص وحتى نحو الوقائع.

ونحو تحميل ذاكرتنا من فرز الماضي علينا تقبل الصورة مهما كانت، وعلينا تقبل طريقة الاستدعاء أو سببه؛ فربما موقف من قريب، أو سلوك من غريب، أو ولادة جديدة، أو موت، أو غير ذلك ولا شك أن ما نستدعي به ذكرياتنا وما نستوقف معه ذاكرتنا شيء عزيز علينا أو يمثل موعظة أو حكمة تعرضنا لها، أو موقفا حياتيا ليس عاديا وهكذا تمتلئ حياتنا بالكثير.

الاستدعاء هذه المرة سببه الموت، الغياب الأبدي لكل شيء، لضحكة ونظرة ولمجمل الصفات الجميلة التي ما عاد لها وجود وما عادت تضج بها أيامنا أو تسترخي لها سرائرنا، الأمر يعدو دارجا على العديد من الناس، وربما حتى على أولاد المتوفى فيما تكنه ذاكرتهم عنه وتستدعيه بفرح أو حزن، وهذا طبيعي، طبيعي جدا.

الأمر غير الطبيعي أن يستذكر طفل في الخامسة من عمره تفاصيل ذلك اليوم، رجل في العقد الرابع من عمره تقريبا قادم من إحدى الدول الخليجية التي يعمل بها، ويحمل آلة كبيرة بين يديه، يدعي أن والد الأطفال (والدنا) يرغب في التقاط صورة تذكارية لطفليه، الطفل يسمع هذا الحديث لكنه لا يثق به، فلم يشاهد قبلاً آلة تصوير بهذا الحجم، الآلة والرجل يصيبان الطفل بدهشة كبيرة تنقلب إلى خوف؛ فيظن أنه جاء ليتخلص منه، يبكي الطفل بكاء شديدا، سال الدمع على خديه، والجميع يرتجيه بأن المسألة لن تتجاوز الدقيقة وينتهي كل شيء، يهدؤونه بكل الكلمات لكنه لا يهدأ، ثم تُلتقَط له صورة بكائية يحتفظ بها الطفل إلى هذا اليوم، ويعيّرونه برباطة جأش واتزان أخيه الأكبر وأفضليته عنه.

يرتسم الموقف بل تنحته الأيام، لا تغيب صورة الرجل من ذهنه، ترتسم ارتساما وما زال في جعبته أسباب موقفه وتلك الآلة التي يحسبها مدفعا مصوبا على رأسه بملء إرادته رغم رجاءاته والبكاءات الثقيلة التي أبدعها حينها، الصورة ومسحة البكاء وصلت للمنزل مع أول وصول للأب؛ فعرف الطفل حينها أن المسألة ليست صعبة كما حملتها له نفسه وتصورها عقله الصغير، خصوصا وأن أخاه قريبا منه في الصورة ولا يتضح أن الصورتين أخذتا منفردتين، اطمأن للصورة، وصدق ذلك الرجل.

وفاة العم العزيز سعيد بن عبدالله الشحي أثارت شجون وشجون الحياة الصغيرة، مقهى البحر (الصندقة)، عروض المصارعة بالتلفزيون، لعبة الكيرم، لعبة الدينمو، ولعبة الورق للكبار، التلفزيون القديم وجهاز الفيديو، البوب المثلج، وأخي العزيز عبدالحميد الابن ومواقفه التي لا تنسى.

هذا العم العزيز كان جميلا، يتميز بابتسامته لنا وبالفن والذوق فبعد قدومه من الغربة لبلده فتح ذلك المقهى الذي ضم معظم أهالي القرية ووفر به ما يستلزم من طعام وترفيه، كما أنشأ غرفة ملحقة بالمقهى كمأوى ومقراً لفريق النسور الرياضي قبل بناء المقر الفعلي بالغرب من المقهى حينها.

المثير أن هذا الرجل العزيز استمر مع الجمال؛ فأنشأ محلا تجاريا في سوق الولاية يتعامل فيه مع الأثاث المنزلي يصنعه بكل دقة، ينقش عليه ويحفر ما يبدو لوحة فنية جميلة، واشتهر بالصناديق العُمانية المستخدمة كمستلزم أساسي وتحفة فنية ضمن أثاث العروسين.    

الموت يخرجنا من وعينا ويدخلنا دهاليز حياة أخرى نستنطق فيها أفنية منازل هدمت، ومرابع هجرت، وأصحاب بعدت، وأحباء قبرت، ومحلاتنا الصغيرة التي نسبر في خواصها فتنعقد الألسن، وتفغر العيون، وتبقى محن أطفال لا يجدون ما يشترون به حاجاتهم كغيرهم، يستذكرون وجوهًا كانت تسرب لهم ما يسعدهم ليتخلصوا من نظراتهم وفقرهم ولأنهم يدركون نوايا الأطفال، ويعلمون متطلباتهم حينها.

ما يخرج من الذاكرة رهين مواقف طبعت بها، لم تبارح بل تمهلت الحضور لحين استدعائها، ولحظات الغياب هي اللحظات المناسبة لذلك الاستدعاء، في هذه اللحظات لست معنياً بإغناء الحاضر لأن الذكريات تمدني براحة كبيرة، نعم، الذكريات تغني الحاضر بي أنا صاحب الذكرى، تشعرني بالحب، وتمدني بطاقة إيجابية لا أجدها في غيرها، ذكراي الملهمة لغد أفضل أجدها دائما في مواقف مناقضة للواقع، ومن الطبيعي عندما نفتقر لشيء ننسج الماضي خيوطا تسحبنا لهناك رغم البساطة، البساطة التي لا نود الرجوع لها لكننا نتذكرها بتفاؤل وحب كبيرين وننسجها واقعا في بعض المفردات الحياتية.

حينما أتذكر الأشياء القديمة تتولد لدي أفكارا شتى نحو تطوير وتحسين مجال الأعمال، فالذكرى لا تضيق مجال العمل كما يجده نادر إبراهيمي في رواية “عشق هادئ” بل تسعفه من الغرق، تعينه على تكملة المشوار بعقل متيقظ وثّاب نحو الغد، قادر على مجابهة الصدمات والعقبات، متشح بالتسامح مع محيطه، وعلى غرار هذا القول فإن البعد عن الذكريات هو بعد عن الماء؛ فالشجرة لا تستطيع أن تعطي ثمارا عاما بعد عام دون تحسين التربة، تلك التربة التي وضعت بها قبل سنين عديدة لا تتغير، والذكريات تحسين للعقل البشري، تلك الذكريات المرتبطة بمواقف معينة.  

غياب العم سعيد عن المشهد الحياتي هو غياب ذاكرة حية كانت تعيش بيننا لكننا لم نستطع استغلالها لمدنا بالطاقة الإيجابية، ولا في تحفيزنا لرسم غد أفضل ومشهد معزز لأبنائنا؛ فشكرا لهم على ما قدموه من أعمال كانت محفزة لفعل مُعين في وقته أو ظلت تلك الأعمال تراود عقولنا، ومن ضحكات وابتسامات ما زالت ممهورة بعيون ووجوه مشرقة يخرج منها النقاء في أجمل صورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *