اخبار عمان

نحو تحرير منظومة التعليم “اللامركزية”

 

د. محمد العاصمي

المتتبع لمسيرة التعليم العام في سلطنة عُمان منذ بزوغ فجر النهضة وإلى يومنا هذا، يُلاحظ التطور الذي شهده هذا القطاع التنموي الهام، وقد أولت الحكومة الرشيدة التعليم اهتمامًا بالغًا، وهذا الحديث نكرره دائمًا وباستمرار لأننا كأجيال واكبت مسيرة التعليم وتطورها ندرك جيدًا معنى الاهتمام الذي حظي به هذا القطاع؛ بل إنه ظل على سلم أولويات التنمية في جميع مراحل التنمية الوطنية، وعلى مدار خمسة عقود رعت الحكومة التعليم خلالها ومكنته كونه يمثل العربة الرئيسية التي تقود قاطرات النهضة التنموية.

وعندما نتابع مسيرة التعليم ونقارنها بين الماضي والحاضر ندرك حجم التطور الذي شهدته خاصة على مستوى البنية التحتية، والموارد البشرية، والموازنات، ومن البديهي أن ينعكس كل ذلك على المستوى العام من المخرجات التعليمية، وأن نشاهد تطور المستوى العلمي المعرفي والقيمي والمهاري كونها محكات تقييم نواتج العملية التعليمية، مع ارتفاع مستوى المنظومة بشكل عام من خلال أساليب الإدارة والتنظيم وبيئة العمل والاستراتيجيات، وكل هذا يعد تطورا طبيعيا للعوامل السابقة.

غير أنه ومن خلال معايشة للمنظومة التعليمية نرى أنها تعاني من إشكاليات خاصة على المستوى التنظيمي، الأمر الذي يدعونا للتفكير جديًا في النظر حول أهمية تبني أساليب ونماذج إدارية حديثة تتوافق مع التوسع الذي شهدته المنظومة خلال الخمسين سنة الماضية، والتوسع الكبير لهذا القطاع مع زيادة النمو السكاني والذي نتج عنه توسع رقعة المناطق التي تشملها الخدمة التعليمية، وضروريات التنمية التي تستوجب تقديم خدمة متساوية للجميع، تأصيلًا للمبادئ التي أقرها النظام الأساسي للدولة وتحقيقًا لمستهدفات التنمية كما أقرتها المنظمات الدولية التي تنضوي سلطنة عُمان تحتها.

والوصول إلى نموذج يتوافق مع كل المعطيات السابقة، يجعلنا نفتح ملف المركزية واللامركزية، فالواضح أن تعليمنا واقع في هذا المطب المعيق للخطط والاستراتيجيات في كثير من الأحيان، وحقيقة الأمر ومع النهضة المتجددة بقيادة مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – أعزه الله فقد وجه جلالته باستمرار إلى البعد عن المركزية، وقال جلالته في لقائه بالشيوخ والأعيان العام 2022م  في معرض حديثه عن اللامركزية الإدارية وصدور نظام قانون المحافظات (وضعنا الأساس التنظيمي للإدارة المحلية، و ذلك بإرساء بنية إدارية لا مركزية للأداء الخدمي والتنموي في المحافظات، وسنتابع بصفة مستمرة مستوى التقدم في هذا النظام الإداري بهدف دعمه وتطويره، لتمكين المجتمع من القيام بدوره المأمول في البناء والتنمية)، وقد يكون نموذج استقلالية المحافظات خير مثال على هذا التوجه الحميد، الذي ساهم بشكل واضح في تمكين المحافظات وتنميتها وتطورها، وعزز نموها الاقتصادي بشكل كبير، وساهم بنشر مظلة التنمية والخدمات بطريقة جعلت المحافظات مراكز جذب استثماري وسياحي وثقافي؛ بل إن بعض المحافظات استطاعت أن تقدم عملًا ملموسًا رغم حداثة التجربة.

لقد حان الوقت أن تأخذ منظومة التعليم العام هذه الخطوة، فلم تعد تتحمل المركزية التي تدار بها؛ بل إنها أصبحت من أهم معيقات تطوير التعليم وعدم مناسبة المخرجات وتوافقها مع ما يبذل من جهد ومال من قبل الحكومة، وخلفت العديد من المشكلات الإدارية سواء على المستوى التنظيمي أو على آليات العمل واتخاذ القرارات، بالإضافة إلى البيروقراطية التي باتت تعيق التطور وتساهم في عدم قدرة المنظومة على مواكبة التغيير المتسارع في أساليب إدارة التعليم، مما ساهم في بقاء المنظومة رهينة التحرك البطئ نحو المفاهيم الحديثة للإدارة وعدم قدرتها على تحقيق المستهدفات بالشكل المأمول.

أساليب الإدارة الحديثة تركز على اللامركزية، وفي هذه الظروف يجب النظر إلى تمكين مديريات المحافظات التعليمية ورفع مستواها الإداري، وإعطاءها صلاحيات كاملة لإدارة التعليم وفق رؤية تتناسب مع تطلعات تحقيق مستهدفات رؤية “عُمان 2040″، وهناك العديد من النماذج العالمية في هذا الشأن يمكن الاستئناس بها، ووضع نموذج يتناسب مع منظومتنا ورؤيتنا وإستراتيجية التعليم، وبما يحقق لنا التطوير الذي ننشده، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد أتجهت عديد من الدول إلى إعطاء صلاحيات واسعة في التقسيمات الجغرافية على مستوى التعليم مثل خصوصية إدارة وتشغيل المدارس، والمناهج التعليمية والامتحانات، والموازنات التشغيلية وتنمية وتطوير الموارد البشرية من خلال برامج التأهيل والتدريب، وحتى الإشراف التربوي بعيد عن مركزية الإدارة.

إن الوضع يحتم علينا ضرورة التوجه نحو إعطاء إستقلالية للمحافظات التعليمية، ومن وجهة نظري أرى أن تقوم الوزارة بدور المشرع والمراقب والمتابع للعملية التعليمية وذلك من خلال وضع إطر عامة للمناهج التعليمية أو ما يعرف بالمعايير الوطنية وتترك المحتوى التعليمي للمحافظات التعليمية، وكذلك الحال بالنسبة للإمتحانات من خلال وثائق التقويم الوطنية، على أن يتم تفعيل المركز الوطني للقياس والتقويم كجهة مختصة بالاختبارات الوطنية، والاتجاه إلى اختبارات المهارات والكفايات كتوجه يتماشى مع النظام الدولي للتعليم والمطبق في المدارس الدولية وثنائية اللغة.

وعلى مستوى الموازنات والإدارة المالية والتشغيلية فإن رفع المستوى الإداري للمديريات التعليمية في المحافظات مع وضع نظام إدارى ومالي وفق الأطر والأنظمة والقوانين المطبقة مع وحدات الجهاز الإداري للدولة كفيل بضمان سير العمل وفق منظومة الحوكمة الإدارية والمالية، ورقابة جهاز الرقابة الإدارية والمالية، كما أنه سوف يساهم في سرعة الإنجاز وضمان تحقيق معدلات التطوير المتوقعة وفق مستهدفات تطوير التعليم، كما أن إعطاء المساحة لهذه المنظومات الإدارية للعمل بأريحية سوف يعزز جودة الهياكل التنظيمية على مستوى التقسيمات الإدارية لديها، كما أنه سوف يتعاضد مع منظومة العمل داخل المحافظات والاتجاه نحو إيجاد فرص وظيفية تضمن الاستقرار والنمو المهني للموظف، وهذا أمر تعاني منه الوزارة حاليًا ويخلق لديها تحدي يتمثل في طلبات النقل الكثيرة.

هذا التوجه سوف يقلل حتى من عدد الوظائف الإدارية التي تدير منظومة التعليم على حساب الوظائف الفنية التي يجب أن تكون هي الأساس في أي نظام تعليمي، وهذا هو الحال في الدول المتقدمة تعليميًا حيث تكون نسبة الوظائف الفنية أعلى بكثير، كما أن التنافسية بين المحافظات التعليمية سوف تزداد وهذا هدف إستراتيجي يجب وضعه في الاعتبار عند الحديث عن تطوير المخرجات، وهناك أمر هام للغاية سوف تحققه لا مركزية التعليم وهو  قدرة كل محافظة تعليمية على تحقيق المهارات والكفايات التي تناسب سوق العمل داخل المحافظة والتركيز عليها من خلال المنهج التعليمي الخاص بها، مما يخدم المحافظة بشكل أكبر ويوفر لها ما يسير بالتوازي مع الخطط والاستراتيجيات الوطنية.

خلاصة القول.. إن هذه الفكرة يجب أن تدرس جيدًا من  قبل متخذي القرار لانها سبيلنا لحل عديد من الإشكاليات والتحديات التي تواجه منظومتنا التعليمية، ولعل ما حدث في الانواء المناخية الأخيرة جزء من هذه التحديات إلى جانب الكثير منها في جوانب متعددة، ومتى ما كانت لدينا فكرة التغيير فإن الوسيلة ستكون حاضرة إذا حضرت النية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *