اخبار عمان

الابتكار وتأثيره على إستراتيجية المؤسسات وتوجهاتها

 

 

نجاح بنت محمد الراشدية *

نشهد اليوم نهضة مُتسارعة وتطورات مُتلاحقة لم يسبق أن شهدتها البشرية، ولم يعد الابتكار خياراً وترفاً للمؤسسات التنافسية بل أصبح من الأساسيات المتفق عليها في مجالس الإدارات؛ حيث يُحدد له بند خاص في الموازنة السنوية إذ بدونه قد تتأثر المبيعات والأرباح ويتراجع سعر السهم في السوق وتتكبد المؤسسة خسائر في محاولة اللحاق بالمتقدمين. لهذا؛ أصبح المستقبل الآن مرهونًا بمدى مواكبة هذه المؤسسات للتطور العالمي وحجم استثمارها في البحث والابتكار، حتى باتت كل الإستراتيجيات تطرح على طاولات الاجتماعات وتُعدّل بشكل مستمر حرصًا على بقائها وعدم تراجعها على أقل تقدير إن لم تستطع التنافس.

إنَّ من أهم التأثيرات التي قد تواجهها المؤسسات من جراء هذه الثورة الابتكارية العالمية هي مكانتها التنافسية في السوق، فإذا كان من ضمن أهدافها وإستراتيجيتها البقاء في القمة أو ضمن الخمسة أو العشرة الأقوى في مجالها؛ فإنَّ هذا التحدي لن ينجح بدون أن يكون للبحث والتطوير والابتكار نصيب كبير من الموارد والاهتمام. وقد بات من الحقائق المعروفة التي تشهدها الأسواق العالمية بأن من يعتلي عرش القمة هم من يعلنون عن منتجات مبتكرة بشكل دوري، ويسعون إلى توفير وسائل جديدة لراحة ورفاهية المستهلك؛ وبذلك يكسبون الولاء من قبلهم ويرتفع تلقائيًا سعر أسهمهم في السوق.. أي أنَّ هناك علاقة طردية مباشرة بين حجم الإنفاق على البحث والتطوير والابتكار والقيمة السوقية للمؤسسة ونجاحها في الوصول إلى القمة.

لذلك؛ أصبح لزامًا على المؤسسات التركيز على تبني أحدث التقنيات والأساليب في الإدارة والتشغيل؛ إذ إنَّ التطورات التي يشهدها العالم سوف تحطّم كل من لا يملك المرونة الكافية للتكيف معها ومواكبتها، ومما يدل على أهمية هذا الأمر أنَّ معظم المناهج الدراسية في كليات التجارة والأعمال، وكذلك في إدارة المشاريع أضافت مؤخراً مواد تعنى بالإدارة المرنة وأساليب التكيف مع التغييرات المتسارعة وعلى أصحاب القرار أن يتقبلوا ذلك وأن يكونوا على استعداد تام لأخذ قرارات مُفاجئة قد تكون منافية لما اتفقوا عليه سابقا، ومن أهم الممارسات التي تتبناها كبرى الشركات هي عمليات الاستشراف ورسم الاحتمالات المستقبلية لما قد يطلبه المستهلك، يليها البحث وابتكار أفضل الأساليب لإنتاجه وهي ميزة تنافسية أخرى تمتاز بها الشركات العالمية.

وقد يؤدي الابتكار أيضاً إلى أن تتخذ الشركة أو المؤسسة قراراً بسحب أحد منتجاتها أو خدماتها من السوق كنتيجة لابتكار جديد تبنّته وفتح معه مساراً جديداً وربما تغير معه المجال الذي تعمل فيه المؤسسة إلى مجال مختلف كليّا؛ لأنها استطاعت من خلاله أن تضاعف أرباحها، ونحن نسمع عن الكثير من المؤسسات الناجحة التي تفتح خطوطا أخرى للإنتاج أو الخدمات قد تكون بعيدة تماما عن مجالها الأصلي، ويعني هذا أن إستراتيجية المؤسسة تمر بمراجعات وتعديلات في فترات متقاربة، ولم تعد كما كانت تلك الوثيقة التي تظل ثابتة لسنوات طويلة؛ فالتوجهات قد تتغير وتتشعب والأهداف قد تتغير وأساليب الإدارة والخبرات المطلوبة أيضًا في تغير مستمر، كما ينبغي لأي مؤسسة أن “تحسن” إدارة الابتكار وأن تقوم باحتساب مخاطر خسارة الابتكار ضمن قائمة المخاطر التي تديرها ليكون لديها الخطط البديلة والموارد الاحتياطية التي يمكن معها تعديل مسارها. وعليها أن تواصل المشوار بدون توقف وإلا أصبحت مع قائمة من استسلموا وتراجعت مؤشراتهم التنافسية والسوقية.

ومن الجوانب الأخرى التي قد يُؤثر عليها الابتكار بشكل مباشر هو كم ونوع الموارد البشرية التي تعمل في المؤسسة فقد تضطر المؤسسة إلى تعديل هيكلها التنظيمي لتتماشى مع التوجهات الحديثة؛ بحيث يكون للبحث والتطوير تقسيما خاصًّا يدار من قبل متخصصين، وبذلك يتم تعديل عدد ومواصفات الموارد البشرية المطلوبة بحسب المؤهلات والتخصصات الجديدة، والمخصصات المالية التي يجب أن تتماشى مع الطلب المتزايد لفئة الباحثين والمبتكرين المتخصصين والذين يصعب إبقاؤهم في نفس المؤسسة إلا بنظام ومميزات مغرية تضمن الاحتفاظ بهم لأطول فترة ممكنة. وهذا يعني أن التسويق للمؤسسة لا يكون للمنتج فقط بل يجب أن يشمل أيضا محاولة جذب الموارد البشرية المتخصصة؛ فمثلا عن طريق الترويج عن مشاريعها المتفردة ومكانتها في السوق وبيئة العمل وغيرها من الحوافز التي يجب أن تحدد مسبقا في الإستراتيجية الخاصة بإدارة الموارد البشرية.

وإضافة للنقاط السابقة، فقد أصبح أيضا من المهم جدًّا الدقة في اختيار الشركاء وهو أمر إستراتيجي يؤثر بدرجة كبيرة في نجاح الخطط والوصول إلى الأهداف، إذ إنَّ التواصل مع المستفيدين والشركاء الآخرين أصبح أكثر أهمية الآن من أي فترة مضت، بمعنى آخر أن ما يحتاجه المستفيد ويشبع رغباته أصبح الشغل الشاغل وبالتالي صار من المهم تقوية العلاقة وإدخالهم وجميع الشركاء منذ بداية المراحل الأولى لأي مشروع، ومن الإستراتيجيات التي تتبعها معظم المؤسسات هو تخصيص مقاعد لهم في اللجان الرئيسة وربما في مجالس الإدارة للأخذ بآرائهم ومحاولة تطوير المنتجات والخدمات وابتكار ما يحقق تلك الرغبات وجعلهم يمارسون التجربة في مراحل مبكرة، ويتضمن ذلك مشاركة المستفيد في مختبرات الابتكار وعمليات فحص الجودة للتحقق من مدى الإقبال ونجاحه في السوق. وهناك شركاء آخرون لا تقل أهميتهم عن الشركاء الآخرين مثل الشركات الصغيرة والمتوسطة الابتكارية ومراكز البحث والتطوير والأكاديميين وغيرهم لضمان استمرارية التطوير والتسابق في إنتاج الأفضل والأكثر جذبا للأسواق؛ لذلك نرى في بعض المؤسسات اللجان مكونة من المسؤولين في الشركة وأكاديميين وباحثين وأصحاب الشركات الابتكارية الصغيرة وأفراد من المجتمع وهي تشكيلة لم تعهدها الاجتماعات في السابق.

وإذا كان الابتكار يؤثر على إستراتيجية المؤسسة، فهو بذلك يؤثر على كل جزء من أجزائها، وأي تعديل أو إضافة في بنودها سيؤثر بطبيعة الحال في مواردها وخططها ونموها وقابليتها على الاستدامة، ويحتاج كل ذلك إلى تغيير في ثقافة العمل وفهم واستيعاب أهمية البحث والتطوير والابتكار وتعلّم وممارسة التقنيات الحديثة؛ فالتغيير يبدأ بالبشر أولا قبل الممتلكات والأعمال، وينجح بتأييدهم للتغيير وتعاونهم وتكاتفهم. وباعتبار أن الابتكار هو المحرك الأول للتغيير فإنَّ على المؤسسات أن تكون على أتم استعداد لتعديل أولوياتها ومواردها وإدارتها وشركائها، وكل ما يمكن أن يُسهم في رفع مستوى التنافسية وعليها اقتناء وتبنّي الفرص الجديدة التي قد تتحول معها إلى آفاق أوسع وأكثر نجاحاً.

 

* المديرة العامة لمركز الابتكار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *