اخر الاخبار

الحماية بين الاستبداد والنسوية العقابية

لمى قنوت

يحفل خطاب النسوية البيضاء والنساء “المستبيضات” (أي اللواتي نهلن معارفهن النسوية وتبنين خطاب النسوية البيضاء دون نقد وتفكيك ومساءلة) بترديد عبارات تتعلق بالحماية الدولية للنساء خلال الصراعات المسلحة والاحتلال والغزو، وبضمنه، وبشكل خاص، حمايتهن من العنف الجنسي، في حين أن الواقع يشهد تزايدًا مروعًا للعنف ضد النساء بتنوعاتهن في دول الجنوب العالمي التي تنهشها الصراعات المسلحة، ومرد ذلك إلى أن طرح الحماية بشكل وصائي، أي من الأعلى إلى الأسفل، أو من “منقذ أبيض” سواء صدر عن هيئة أممية أو منظمة دولية أو من أصاب وصاحبات الامتيازات، يبقى حبرًا على ورق، واستهلاكًا خطابيًا، فالحماية تُبنى من خلق شبكات دعم محلية قاعدية تقدم المعونة المتبادلة، تلجأ إليها النساء عندما يتعرضن للعنف بكل أشكاله.

وفي حين تصر النسوية العقابية على تعبئة الجهاز العقابي للدولة التي تفسر العنف ضد النساء بتنوعاتهن على أنه مسألة إجرائية وجزائية، وتتجاهل تفكيك هياكل القمع المتنوعة للقضاء على العنف، وتحفل سجونها المكتظة بالعنف ضد المُفَقرين والمهمشين والملونين واللاجئين والمهاجرين، رجالًا ونساء، وبالتالي يعيد جهازها العقابي إعادة إنتاج التبعية والعنصرية والعنف، وتزداد وطأة الإيذاء على النساء من خلال التشكيك في رواياتهن ومصداقيتهن ومراقبة أجسادهن ووصمهن وتحميلهن أعباء اقتصادية مضاعفة، وبالمحصلة تتضاءل فرص إبلاغهن عن العنف، الأمر الذي يدفعنا لإيجاد حلول جذرية ناجعة ومستدامة لمكافحة العنف ضد النساء والتفكير أبعد من تعبئة الجهاز العقابي في دول ذات نظام شمولي أو استبدادي، والتي تمتاز بُنيتها السجنية بالتوحش المميت، وتستنسخ منها قوى الأمر الواقع ذات البنى القمعية في مؤسساتها وسجونها خلال الصراع، وعليه فإن المحاسبة دون تفكيك بُنية الاستبداد وهياكل القمع لا تنهي العنف ضد النساء.

يوم شباطي دامٍ في سوريا

ككل المؤسسات والهياكل القمعية، يتبع النظام الأبوي تكتيكات لديمومة سلطته وامتيازاته وقمع وإخضاع واضطهاد النساء بتنوعاتهن، ويغلفها بتبريرات وذرائع لتكون مستمرة ومتواصلة ومرنة لإدامة حلقات التمييز والعنف وفقًا لرغبة القامع، سواء كان فردًا أم عائلة أم مؤسسة أم مجتمع أم دولة. وتأخذ التكتيكات طيفًا من الأدوات كالإقصاء والتهميش والإفقار والتشهير والإسكات والاغتيال المعنوي والتجهيل والعنف الجنسي والحرمان من الحقوق والقتل.

استخدم مسرح العنف والتوحش الذي كانت ضحيته لينا عكلة الأحمد وأختها عائشة في شارع في تل السمن بالرقة بذريعة “الشرف”، فالتف حول لينا جمع من ذكور متوحشين، رجالًا وأطفالًا، وقاموا بضربها وسحلها، وتجمع آخرون للفرجة، بضمنهم مصور لتوثيق جريمة التوحش هذه، بينما هي تصرخ “والله بنية، والله بنية” كتأكيد على عذريتها، علَّها كلمات تُخلصها من إجرام أقربائها، الذين فوضوا أنفسهم حماة لعذريتها وأوصياء على جسدها، وسط مجتمع يدعمهم ويشجعهم ويتواطأ معهم.

ورغم أن الجريمة وقعت في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” التي لها قوانينها الخاصة، والتي اعتقلت ثلاثة من المتهمين، فإن قانون العقوبات بشكل عام في سوريا يتواطأ مع قتلة النساء، تحت ذريعة “الدافع الشريف”، وفق صلاحية واسعة يتمتع بموجبها القضاة لتخفيف العقوبة عن المجرم حسب (المادة 192 من قانون العقوبات)، فالقانون لا يعاقب القاتل كأي جريمة قتل عندما تكون الضحية امرأة، ورغم أن القوانين المدنية تقر بالأهلية الكاملة للنساء في التعاقد والتصرف بممتلكاتهن وأصولهن دون قيود، فإنها تتواطأ مع النظام الأبوي وتعتبرهن فاقدات الأهلية بحقهن في السيادة التامة على أجسادهن.

وفي ذات اليوم من شباط الدامي، في 27 من شباط الماضي، اغتيلت الناشطة هبة حاج عارف في منزلها في بزاعة بريف حلب، وهي عضوة في الحركة السياسية النسوية وشبكة المرأة السورية ووحدة دعم وتمكين المرأة ومديرة مدرسة تابعة لمنظمة “يني آدم”، وكانت هبة قد استقالت من عضوية المجلس المحلي لمدينة بزاعة بعد الضغط والتهديد، كما وسبق أيضًا أن تعرضت لتهديدات بالقتل هي وأسرتها. وبعد إدانة واسعة للجريمة من أفراد ومؤسسات مدنية، حرص بيان مديرية أمن الباب على عدم ربط جريمة القتل هذه بالشأن العام، وتبرئة الفصائل العسكرية المتحكمة بالمنطقة بعد يوم واحد من الجريمة، الأمر الذي يؤكد أنه لا يمكن أن تتحقق العدالة في بنى وهياكل قمعية، وأن العدالة الجزائية وحدها لا تقضي على العنف ضد النساء بتنوعاتهن إلا بعد تفكيك هياكل القمع المتنوعة.

لا يمكن النظر إلى هذه الجرائم بمعزل عن السياق السياسي في سوريا والمنطقة، وأثر تحويل سوريا إلى منطقة حرب بالوكالة وتصفية صراعات مكنت سلطات الأمر الواقع من الحكم والتحكم. تلك القوى المغرقة بذكوريتها السامة واستبدادها التي تعيد إنتاجهما في كل الفضاءات. وعليه، فإن التحرر الوطني السوري والتحرر النسوي هما مساران متلازمان ومرتبطان ببعضهما، لا يكون أحدهما دون الآخر.

المصدر: عنب بلدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *